طلال سلمان

الجمهوريات الملكية العربية..

لما يسقط نظام الخلافة (الملكي) كليا، بعد.. وحتى “الجمهوريات” القائمة في بعض ارجاء الوطن العربي هي ـ في جوهر نظامها وادائه، وان اعلنت ذاتها “جمهورية” فان حاكمها الواصل، غالباً، على ظهر دبابة، سرعان ما يتحول إلى “ملك” بالقاب سامية عديدة، ابسطها “حضرة صاحب الفخامة”..

وكما “جلالة الملك” فان “فخامة الرئيس” لا يكتفي بولاية رئاسية، بل قد يجد لنفسه من المبررات والحيثيات ما “يقنع” به “شعبه” من أن التجديد او التمديد انما هولحفظ الوطن وتأمين مستقبل المجد والرخاء والرفاه، وصد الاعداء عن الوطن واهله الصامدين والمخلصين للدولة وبطلها الصنديد.

…بل أن بعض رؤساء الجمهورية قد أمضوا في سدة الحكم اكثر من بعض الملوك، وبصلاحيات تكاد اوسع من صلاحياتهم، ولم يغادروا الموقع الممتاز الا.. بالموت.

وبديهي أن يختفي “الشعب” مع اصحاب الجلالة والفخامة، وان يرجع “الناس” إلى موقعهم الطبيعي كرعايا وان يخاطبهم ولي الامر بصفتهم “شعبه العظيم”.

بديهي، ايضا، أن تختفي الاحزاب السياسية او أن “تذوب” في حزب “السيد الرئيس”، وان يتحول “الشيوعي” إلى بعثي” للضرورة، او “القومي العربي” إلى “شيوعي” كما جرى في جنوب اليمن، او “اليساري” إلى “انعزالي” كما جرى في لبنان واقطار عربية أخرى..

وإذا كان الملك يتوج ليحكم مدى العمر، فان بعض من وصلوا إلى الموقع الأعلى قد نصبوا أنفسهم رؤساء ” إلى الابد”، او إلى أن يقضي عليهم “ثوار الفوضى”.

ولقد حكم بعض البلاد العربية ضباط برتبة عقيد، او نقيب، او حتى برتبة “رقيب اول”، مثل علي عبدالله صالح في اليمن (وفي سوريا كما لفترة مع الملازم او النقيب حاطوم..)

وفي هذه الحالات جميعاً كانت مؤسسات الدولة تتحول إلى “تكايا”، من “مجلس النواب” الذي يصير “مجلس الشعب” ومن مجلس الوزراء الذي يتحول إلى “ندوة حوار” او تكية للكلام عن ضرورة اتخاذ القرار… متى شرف المجلس برئاسة “القائد المفدى”..

..وكما أن لا مدة لولاية الملك الا في عمره، كذلك الرؤساء العرب فانهم يحكمون طالما “العمر يليق لهم”.

هل ترى لهذا تتغير الاحوال، وتتبدل الاولويات، وتنهض البلاد ذات الانظمة الديمقراطية (التي اختارتها وارتضتها نظاماً للحكم، على علاتها..) في حين تعجز هذه الانظمة المسماة ديمقراطية لتمويه دور العسكر فيها او لطمس دور القبيلة او العشيرة او الطائفية؟!

ثم، لماذا لا ينتبه الناس في بلاد الغرب (والشرق البعيد غالباً) إلى دين الرئيس (او حتى الملك) ولا إلى مذهبه، بل يحاكمونه ويحكمون عليه بقدرته على الانجاز او عجزه عنه، وبتحقيق الوعود التي أطلقها قبل الوصول ثم التقصير في الايفاء بها، بعدما استقر على العرش؟!

هل يعود العيب في نقص الديمقراطية إلى ابتداع “الخلافة”، بعد رحيل النبي محمد (صلى الله وعليه وسلم)، ولم يقبل في حياته أن يكون رئيسا او ملكا او اميراً، مكتفياً بكونه رسول الله.. كذلك فهو لم يقبل أن يسمي ولياً للأمر بعده، بل ترك امرهم شورى بينهم، وان كان قد أكد، بالقرآن الكريم، كما في خطبه ورسائله على أن الله هو ولي الناس، واوصى بان يكون الامر شورى بينهم، مؤكداً أن اقربهم اليه اتقاهم..

ويمكن لأي ساذج أن يتساءل: هل هو السبب ام انه بين الاسباب التي ادت إلى اغتيال ثلاثة من الخلفاء الراشدين، ثم كانت الفتنة الكبرى التي ادت إلى تحول الخلافة إلى ملك مكين يؤخذ بالسيف ولا يتركه صاحبه الا بالسيف؟!

وهل هو السبب، استطراداً، في انقلاب “وجعلنا امرهم شورى في ما بينهم” إلى توريث الملك: يموت الملك، او الخليفة، يعيش الملك الجديد او الخليفة الجديد.. فان لم يكن للراحل ابن راشد اختارت الاسرة المالكة وريثاً ملكاً، وغالباً ما قتل الاخ اخاه من اجل ان يصير الحكم اليه…


ذلك في التاريخ. اما في العصر الحديث فكثير من الرؤساء العرب، لا سيما الذين جاءوا من العسكر، اعتبروا انهم “مخلصو البلاد” و”منقذو الشعب من الفتنة” بل وسمحوا لإعلامهم أن يسمي واحدهم “الرئيس الخالد” وهو حي يرزق..

والامثلة ثيرة وموجعة:

ـ فالرئيس الراحل الحبيب بورقيبة حكم تونس (بنظام ديمقراطي) لحوالي ثلاثين سنة متصلة، برغم انه في سنواته الاخيرة كان قد ضربه الخرف، وبات ينسى الاسماء والمناصب الا في حالات محددة ومؤقتة… وكانت شهادة التزكية انه قاد بعض النشاط السياسي ضد المستعمر الفرنسي، مما ادى إلى اسقاط “الباي” الذي كان يحكم تونس.

ـ والعقيد معمر القذافي الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري قاده مع بعض ضباط الجيش على الملك ادريس السنوسي بعد جلاء بعض المستعمرين عن ارضها، او سماحهم بقيادة دولة فيدرالية (من ثلاث ولايات: الشمال، طرابلس ومحيطها، والشرق ـ بنغازي ومحيطها عند الحدود مع مصر والجنوب، سبها ومحيطها على الحدود مع تشاد..).

ولقد حكم القذافي ليبيا بطريقة فريدة لمدة تزيد عن 42 سنة حكما مفرداً مطلقاً لا شبيه له في التاريخ: فهو أكثر من امبراطور، له القرار في السياسة والاقتصاد والزراعة والفكر، بينما الشعب مجرد ارقام يحملها الرعايا في مؤتمرات التنظيم الاوحد في “الجماهيرية” التي ابتدعها “القائد” صاحب النظرية التي قدمها في “الكتاب الاخضر” ومجموعة مؤلفات اخرى كتبها في اوقات فراغه وتناول فيها شؤون الفكر والاقتصاد والسياسة والدين بطريقة غير مألوفة وأحيانا مبتدعة.

ـ وإذا ما تجاوزنا جمال عبد الناصر الذي حكم 1956 منذ قيادته الثورة في 23 تموز (يوليو) 1952، فان انور السادات الذي حكم في الاتجاه المضاد، وعقد الصلح مع العدو الاسرائيلي ووقف خطيباً امام الكنيست فقد سقط برصاص الاغتيال خلال الاحتفال في الذكرى الثامنة “لنصر اكتوبر” وهو على المنصة في 6 تشرين اول (اكتوبر) 1981.

ولقد خلفه الرئيس حسني مبارك الذي حكم مصر لثلاثين سنة متصلة وقد خلعته ثورة شعبية عارمة، سرعان ما صادرها “الاخوان المسلمون” وتمكنوا من ايصال مرشحهم محمد مرسي إلى سدة الرئاسة، ثم خلعته انتفاضة شعبية عارمة انتهت بإعادة الحكم إلى الجيش.

ـ وقد حكم سوريا الفريق حافظ الاسد بانقلاب عسكري مدة ثلاثين عاماً متصلة (1970 ـ 2000)، ثم تولى منصبه، كخلف له في رئاسة الجمهورية نجله الدكتور بشار الاسد، وهو في منصبه حتى اليوم.


هذه لمحة مختصرة عن تاريخ الرئاسة في الجمهوريات العربية..

أما تاريخ الممالك وملوكها، والامارات وامرائها، فيحتاج إلى وقفة أخرى. مات الملك ـ الرئيس عاش الرئيس ـ الملك.

من أين يأتي الغد العربي الافضل؟!

تنشر بالتزامن مع جريدة “الشروق” المصرية

Exit mobile version