طلال سلمان

الجائزة وبعض حكاياتها

ليس من عاداتي الحصول على جوائز،  بل ولا أذكر أنني كنت يومًا بين الأوائل في مسابقة رياضية أو امتحان في فصل أو مدرسة أو في شهادة عامة. الاستثناء الوحيد تحقق في عام تخرجي من الجامعة ولسبب لم يعد سرًا، إذ قضيت العامين الأخيرين في عمر التلمذة أعمل في مكتبة أجنبية؛ حيث تعلمت حتى أدمنت القراءة من خارج المنهج. لذلك وبعد مرور حوالي خمسة وستين عامًا، وللوهلة الأولى، لم أطمئن إلى صوت خشن كان يحاول عن طريق الهاتف نقل رسالة بدت لي صعبة التصديق. تجاسرت فجعلت صاحب الصوت الخشن ينقل الرسالة مرتين، ففي الرسالة كما نمت إلى فهمي في القراءة الأولى إشارة إلى شخص آخر، ليس رجلاً على كل حال، يريد التحدث معي في مسألة شخصية. فيها أيضًا تلميح بأن المسألة تتعلق بترشيحي لجائزة تحمل اسمين: مصطفى أمين وعلى أمين.

•••

اتصلت السيدة لتبلغني أن لجنة من المحكمين اختارتني لجائزة كاتب أفضل مقال. بدت سعيدة وهي تنقل عن مجلس أمناء مؤسسة الجائزة انشراح الأعضاء بهذا الاختيار. حاولت من ناحيتي أن اكشف عن شيء من السعادة وأتخلى ولو قليلاً عن الشك والريبة. زاد الفضول عندما نطقت السيدة باسمها بالسرعة البطيئة، أظنها نطقت به عامدة بعد أن لمست في صوتي غرابة لم أفتعلها. “أنا صفية رئيسة المؤسسة، أنا صفية مصطفى أمين”. هنا راح لساني يتمتم في سكون.. صفية ابنة مصطفى أمين تبلغني بنفسها قرار مؤسسة مصطفى أمين وعلي أمين منحي أهم جوائزها المستحقة عن العام الفارط.

•••

أن أحصل على جائزة فأمر لا شك غريب، أو لعله بدقة أشد غير متوقع من جانبي كما سبق وذكرت. أما أن تكون الجائزة تحمل اسمي مصطفى وعلى أمين فهو الأمر المستحيل تصوره وليس فقط توقعه إن وقع قبل سنوات. جئت إلى هذه المهنة، مهنة الصحافة، من باب بعيد ليس كأبوابها المعتادة أو المأهولة. جئت من الدبلوماسية مرورًا بالأكاديمية لأنضم على الفور إلى بلاط صاحبة الجلالة عند القمة. وقتها، أقصد وقت الانضمام، كانت المهنة تغلي بالأقاويل والتوقعات. جمعت بعضها وذهبت بها إلى مقعد خالٍ بطائرة الشركة الفرنسية، يجاور المقعد الذي احتله محمد حسنين هيكل قائد الرحلة الشهيرة التي قام بها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية إلى شرق آسيا وجنوبها.

“هات ما عندك، فلهيب الفضول سبقك إلى المقعد الخالي”. قالها وأغلق بحنان واعتبار كتابًا كان يقرأ فيه، واستدار نصف دائرة استعدادًا لمصارحة لم أخيب أمله في أهميتها. سألت إن كان هناك ما فاتني معرفته في قصة الخلاف الناشب على قمة الصحافة المصرية بين هيكل وآل أمين. أجاب بحذر ما معناه، “لم يفتك الكثير، فالعلاقة في جوهرها، وكثير من تفاصيلها، تشهد عليها مهنة الجورنالجية في كل عصر وكل بلد. عندنا وأقصد في بلدنا، أُضيفَ إليها كثير من الرتوش، وتدخَلَت في إثارتها ومسيرتها مصالح قوى داخلية وخارجية ومراكز تأثير تعمل في السر وفي العلن. أعدك بتفاصيل لم يحن أوان الإفصاح عنها، يحين أوانها مع أوان قضايا أخرى على قائمة الانتظار. كل ما استطيع مساعدتك به، إطفاء لبعض فضولك المشروع، مع رجاء أن تحتفظ به لنفسك هو أن علاقتي بعلي أمين قوية كالعهد بها دائمًا وعلاقتي بمصطفى أمين جاهزة لإعادة تأهيل. الأساس فيها لم يتغير، وهو أننا كجماعة فريدة من البشر، جماعة الجورنالجية، نعيش ونتغذى على المنافسة والسبق الصحفي وكثافة وعمق الاتصالات. ثق في أن أحدًا منا لم ينس فضل الآخرين عليه. هناك طبعًا الدخلاء والمفسدون وهؤلاء لا خلاف حول أدوارهم في إشعال الفتنة في أوساط المهنة. قريبًا جدًا سوف تكتمل عندك الصورة. أعدك بهذا”.

مرت شهور حافلة بالأحداث. اكتملت في نهايتها الصورة أو كادت. طلبت وزميلي في مركز الدراسات سميح صادق مقابلة مع أحمد بهاء الدين. رحنا نشكو ما قيل لشباب المركز على لسان أحد كبار المسئولين وخلاصته أن الأهرام لن يكون مستعدًا للاستمرار في استضافة مركز الدراسات إذا استمر بدوره يمارس تخصصاته السياسية والاستراتيجية. طلب منا بهاء الدين أن نعود لمقابلة أخرى في اليوم التالي. قال لنا في المقابلة الثانية “أنتم أحرار. إن أتيحت لكما فرص عمل في الجامعة العربية أو غيرها فلا تترددا. كل ما استطيع قوله لكما هو أن “موضوع مستقبل المركز أكبر مني ومن على أمين رئيس تحرير الأهرام”.

مرت سنوات قبل أن تظهر لنا التفاصيل في كتاب أحمد بهاء الدين “محاوراتي مع السادات”، وبينها أن الرئيس السادات شخصيًا كان وراء تعليمات تغيير هوية المركز واهتماماته، ووراء سياسات إضعاف الأهرام كمؤسسة إعلامية. بينها أيضًا أن كل الكبار الذين تولوا مسئولية الأهرام بعد هيكل رفضوا أن ينفذوا حرفيًا أو بحماسة تعليمات الرئيس، ومن هؤلاء حاتم والسباعي وعلي أمين.

•••

كان حفل توزيع الجوائز كريمًا ودافئا. التقيت العشرات من الضيوف والمحكمين والمسئولين عن إدارة الجائزة ومن هؤلاء وغيرهم تلقيت التهاني الواجبة وأيضًا المناسبة. هنأني بحفاوة رسمية الأستاذ محمد بركات أحد القادة في مؤسسة أخبار اليوم وزميلي لسنوات في هيئة جائزة دبي للإعلام العربي، وهنأني بخطاب عاطفي وجاد في آن الصديق الدكتور مصطفى الفقي. كنا في المدرسة نسبغ على خطيب الحفل صفة المفوه قبل أن نعرف معناها. قابلت في حياتي رجلين استحقا في رأيي هذه الصفة بجدارة بعد أن صرت أعي معناها في الأسلوب كما في الجوهر. الرجلان هما اللبناني كلوفيس مقصود والمصري مصطفى الفقي. كلاهما يستطيع إلقاء خطاب لمدة ساعة أو أطول في موضوع يجري تكليفه به قبل دقائق معدودة من لحظة صعوده إلى المنصة ويحصل على دقائق عديدة من التصفيق والتهليل وقوفًا عقب الانتهاء من إلقائه.

•••

انتهى الحفل أو كاد بانتقال جهاز الجائزة وكبار المسئولين إلى حيث كانت مائدتنا. وفي أعقابهم وفي موكب التهاني مشى المهنئون والمهنئات. رحت أتلقى بالرضا أحضان التهنئة بينما عقلي يبحث عن الأسماء، أسأل مرة الدكتورة نيفين وأخرى الزميلة داليا شمس وثالثًا الصديقة أميمة كمال. قضيت أسبوعين في فراشي أكرر الأسماء بعد أن أضيف إليها عشرات خوفًا من فقدان اسم منها هنأني فنسيت.

كادت الغرفة تضيق بأفراد العائلة، نساءً ورجالاً، حين استأذن طبيب الحي في مساحة تسمح له بالكشف على صدري، وفسحة وقت تسمح له بتوجيه أسئلة وتلقي أجوبة. سألني فأجبت بأنني حضرت حفلاً وأن المهنئين كانوا كثر. سأل، يعني كانت هناك أحضان وقبلات؟ أجبت بنعم. واستطرد خاتمًا استجوابه بمحاولة أخيرة لتبرئة نوايا أسئلته، يعني مفيش كمامات؟.

•••

اليوم أكتب من خارج الفراش منتهزًا فرصة تناول آخر الأقراص المهدئة للحرارة لأشكر أسرة مؤسسة جائزة مصطفى وعلى أمين على الجائزة والحفل الكريم، وكل المهنئين والمهنئات. أشكر أيضًا عشرات الصديقات والأصدقاء الذين كتبوا رسائل مطولة أو قصيرة حملت تهاني بالجائزة. أخص بالذكر واحدة منها كتبها ثم نشرها الصحفي اللبناني الكبير الأستاذ سمير عطاالله في صحيفة الشرق الأوسط. أخصها بالذكر لأن الأستاذ سمير، مثل عدد غير قليل من الأصدقاء، يفضل دائمًا أن يشبه علاقتي بهيكل بعلاقة التلميذ بالأستاذ، وفي مقاله الأخير كرر هذا التشبيه. يذكر ولا شك أنني كنت على الدوام أرفض هذا التشبيه. يعرف كل من عملوا معي أنني قضيت معظم سنوات حياتي أقارن بين خبرات من أعمل معهم واختار منها ما يناسبني. سعدت، وما زلت أسعد، بما حصلت عليه من خبرات متميزة في العلاقتين، علاقتي العمل والصداقة مع هيكل، وخبرات متميزة أخرى من علاقة طويلة من العمل والصداقة مع أحمد بهاء الدين وعلاقة قراءة في الأسلوب والممارسات الصحفية التي ساهمت أكثر من غيرها في نقل الصحافة المصرية إلى مرتبة الحداثة، أقصد خبرات وأساليب التابعي وجلال الحمامصي ومصطفى أمين وغيرهم.

من ناحية أخرى لا يفوتني أن أشير في هذه السطور الأخيرة إلى رد هيكل على مداخلة من صحفي لبناني في جلسة عمل انعقدت في بيروت حضرها أصدقاء من وزن أسعد المقدم وطلال سلمان وغسان تويني وكان حاضرًا على ما أذكر الصديق سمير عطاالله. تعمد الصحافي يومها الإشادة بإمكاناتي كتلميذ نجيب لهيكل. أذكر أن هيكل علق سريعًا بعبارته المعهودة “هذا بالتأكيد شرف لا أدعيه”.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق

Exit mobile version