طلال سلمان

التنمية والنيوليبرالية وتزعّم المواطنية وظروف الحرب

التنمية أو النهوض الاقتصادي هو بالدرجة الاولى نهوض سياسي، ازدياد في قدرة المجتمع، بواسطة مؤسساته، على أخذ القرار. النهوض هو بمعنى ما استمرار لحرب التحرر الوطني من أجل الاستقلال ثم ممارسة السلطة بمنأى عن رغبات الدول الاستعمارية الحاكمة سابقاً والاتجاه بالانتاج، زيادة وتوزيعاً، الى تلبية حاجات الناس. بالمشاركة السياسية والاقتصادية، بالمشاركة في كل ما يتعلق بالشأن العام، في البلد المستقل حديثاً او قديماً، يصير الناس مواطنين. المواطن هو من يشارك في شؤون بلاده. لا يقبل بالأمن مقابل الخبز، او الحرب الاهلية مقابل الخضوع لحكم طاغية او أقلية مالية او طغمة عسكرية. غالباً ما يشكل هؤلاء جسماً حاكماً واحداً يوزع الادوار بين مختلف اطرافه.
القرار أو القرارات التي تتعلق بالنهوض الاقتصادي تختلف عما كان الامر عليه في حروب التحرر الوطني. كان الأمر يحتاج الى تعبئة شاملة، بما في ذلك الشأن الثقافي والتمايز الحضاري لتبرير النضال من أجل الاستقلال. عندما تستقل الدولة يتطلب النهوض الاقتصادي، أو التنمية، تخلياً عن التمايز الثقافي واندماجاً في العالم وتجاوزاً لثقافاتنا المحلية. لا ننخرط في العالم اذا لم نقلده ونعتبر انفسنا جزءاً منه. لكن معظم بلدان العالم الثالث يحتفظ بالتحشيد الثقافي الذي يدور في غالب الاحيان حول روايات مفسرة للتاريخ، وحول رموز ينبغي الخضوع لها أو التعامل معها مثل العلم والنشيد الوطني والعملة الوطنية، وبالطبع يمنع على الناس ممارسة حرية الرأي فيما يتعلق بتوجيه النقد للطاغية أو خدش الحياء الديني أو تهديد الشعور القومي. هناك بضعة “شياطين” يجب الابتعاد عنها وتجنبها. على المواطن ان يعرف من هو، ان يعرف حدوده، وأن لا يتجاوزها. ففي التمادي خطر على صاحبه.
من الطبيعي ان تجد بلدان العالم الثالث، والتي بقيت كذلك، في الانتخابات الديمقراطية شيئاً مكروهاً تمارسه الدول الغربية مع كثير من النقائض، وتمارسه البلدان العالمثالثية بما يؤدي الى ضمان استمرارية الطغيان والحكم الى الابد. في الغرب سيطر المال على الانتخابات، وفي البلدان العالمثالثية سيطرت أجهزة المخابرات. في الحالتين، كان التمثيل البرلماني يمثل الطبقة الحاكمة التي تقرر النتائج سلفاً؛ في الغرب بشكل ناعم، يقتضي الكثير من السياسة والاقناع اضافة للمال؛ في البلدان العالمثالثية بالقسر والاكراه وعدم الاكتراث للحوار والاقناع. اعتبر الغرب بما فيه السلطات الحاكمة والجمهور ان الامر سيرورة، وان حقوق الطبقات الدنيا يتم التنازل عنها تدريجياً حسب تغير ميزان القوى؛ علماً بأن التطور لا يسير بخط مستقيم وان السلطات الحاكمة تتراجع أحياناً عن “الحقوق الممنوحة” (ضمانات اجتماعية، ضم اعداد متزايدة للقاعدة الانتخابية، النقابات العمالية، الخ،…) حالما تخف الضغوط الخارجية، مثلما حصل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. فتراجعت في الغرب الليبرالية التقليدية ودولة الرعاية الاجتماعية أمام الليبرالية الجديدة مع صعود العولمة.
لم تتمتع الدول العالمثالثية (سابقاً) بمستوى المرونة لتغيير الاتجاه. بقيت على التحشيد الثقافي لمواجهة الغرب. مواجهة الغزو الثقافي هي قتل كثير من السكان من أجل تحقيق الاستقرار. تحول الكثير من الشعارات حول المطالب المحقة الى المسكوت عنها. كانت ثورة 2011، التي شملت مختلف الاقطار العربية، وامتدت الى العالم، انفجاراً أخرج المكبوت الى العلن. أدى الأمر الى ثورة مضادة وحروب اهلية في المنطقة العربية. أما بلدان آسيا الشرقية التي حظيت بنمو اقتصادي مرتفع فقد تجنبت المصير ذاته. بقية بلدان العالم الثالث تتأرجح بين هذا وذاك.
في بلدان الغرب الصناعي المتقدم لم يعد الرأسمال الصناعي هو المسيطر. ربما صح القول عن هذه البلدان انها الغرب الزراعي المتقدم؛ الذي تسيطر فيه الرساميل المالية. في هذه البلدان، وبعد عقود من السنين جرى فيها القضاء على النقابات والتنظيمات العمالية، اضافة الى تجويف الاحزاب اليسارية، وتجفيف السياسة عموماً، في هذه البلدان تجري الانتخابات النيابية “ديمقراطياً” ويكون الخيار لدى الناس بين مرشحي الرأسمال المالي الكبير (الملقب بالمتوحش) وبين الرموز القومية (التي تسمى شعبوية أو فاشية خوفاً من تكرار تجربة القرن العشرين). تحتاج الحملات الانتخابية في هذه البلدان الى كميات كبيرة من التمويل، مما يعني شراء الانتخابات لصالح الطبقات العليا أكثر مما هي عملية يجري فيها التعبير عن مصالح الجمهور وتحقيقها. تطغى الرموز القومية الى درجة ان الجمهور يصوّت في احيان لصالحها تحت عنوان تخفيض الضرائب. وهو عنوان كاذب يستخدم لغش الجمهور لأن من تخفض الضرائب عليهم هم الجمهور ذاته؛ الطبقات الدنيا هي التي تتحمل معظم الضرائب. تعيش هذه الطبقات على الاجور التي تقتطع منها الضرائب سلفاً. أما الطبقات العليا فلديها الكثير من المحامين الذين يجدون ثغرات في القانون للتهرب من الضرائب. دونالد ترامب، مثلاً، لم يدفع ضرائب منذ عشرين عاماً. لا بدّ ان في الامر احتيالا على القانون.
انفجرت ثورات 2011 في وجه الليبرالية الجديدة؛ في وجه ثيولوجيا المال، وثيولوجيا الدين والمذهب، وثيولوجيا القومية والاتنية؛ في وجه رموز يراد لها ان تحل مكان الحياة الحقيقية اليومية التاريخية المعاشة. ارتفاع شأن المال، كقوة روحية تفوق ما في النفس من قوى روحية أخرى، أدى الى افقار ذهني وفكري، خاصة وان وسائل الاتصال الاجتماعي تهيّء المناخ اللازم. بين صك ملكية في السماء وصك ملكية على الارض، صك لا يتعدى في الغالب بضعة دولارات، يختار المواطن ما يدخل الى جيبه. ذلك أقرب منالاً وأسلم على المدى القريب. ذهنه في مكان وجيبه في مكان آخر. الذهن مسلوب التفكير. والجيب ينتظر فتات المائدة. ليست الليبرالية الجديدة شكلاً من اشكال الليبرالية، او مرحلة أخرى في تطورها، هي شكل من اشكال الدين. تدين للرموز وللسماء بأكثر مما تدين للارض. كل ما لدى الفقراء دين عليهم. الديان ينتظرهم. بطاقات الائتمان ترهن مستقبلهم. تعطيهم مكاناً في الجنة. الجنة الموعودة في السماء تتحقق على الارض ديناً. تدفع مسبقاً ثمن حصتك في السماء. وتدفع مؤخراً ثمن قسطك على الارض. تعمل حياتك كلها من أجل إيفاء الدين. فوائد بطاقات الائتمان عالية.
تسلخ الليبرالية الجديدة مواطنية الفرد. تنزع عنه المشاركة في الحياة السياسية، التي تعني قبل كل شيء ادارة الشأن الاقتصادي. تسلخ الليبرالية الجديدة المشاركة من الفرد بأن تجعل الانتخابات النيابية او الرئاسية، او حتى البلدية، معطاة لمن بأيديهم الرأسمال المالي. الليبرالية القديمة ايديولوجيا عصر صناعي. النيوليبرالية ايديولوجيا عصر مالي، عصر يسيطر فيه المال على الرأسمال الصناعي وعلى المجالات البشرية الاخرى من العدالة الى السياسة الى السكريتاريا، الى الميديا، الى العلوم الحديثة، الخ…
يدخل المرء الى الهيكل. يسلم روحه لمن ينوب عن السماء. يخرج من الهيكل بلا روح. يدخل المرء الى هيكل الديمقراطية في قلم الاقتراع، يسلم مواطنيته لمندوبي ارباب المال. بعدها لا يبقى من مواطنيته شيء. لا يشارك في اي قرار. تدار شؤون البلد في غرف مغلقة. يتم الابلاغ عنها عبر وسائل الاعلام. وهذه معروفة التمويل ومصادره.
يقال عن النيوليبرالية انها سعي لتصغير حجم الدولة وتدخّلها في شؤون الناس. هؤلاء بالطبع، يستهويهم انخفاض تدخل الآخرين في شؤونهم. يعتقدون ان تلك هي الحرية، أو هي من متطلبات التحرر. ألا يدعو الى الشك بشأن النيوليبرالية أن موازنة الدولة في عهدها تتزايد، خاصة فيما يتعلق بانفاق العسكر، ولو كانت الارقام في الموازنة مموهة. كثيراً ما يحذف من بند الانفاق العسكري كل ما يتعلق بالاجهزة الامنية والجيوش الخاصة التي تستخدمها الدول (بدل المرتزقة؟) للقيام بمهام خارج النطاق المعلن للجيش الرسمي، او للقيام بمهام لا يسمح بها القانون كالتعذيب والاغتيالات والانقلابات، الخ… في النهاية يزداد حجم الدولة تحت الراية النيوليبرالية.
النيوليبرالية موضوعة لنزع مواطنية الفرد ومشاركته بعد نضال دام عقوداً أو قروناً طويلة حاز فيها على حقوق تسمى “امتيازات” لم تكن متاحة من قبل. يجري التراجع عن كل المكتسبات والضمانات الاجتماعية التي تحققت في العهد الليبرالي (خوفاً من شيوعية اتحاد سوفياتي). تضرب النقابات والتنظيمات المهنية والحرفية التي كانت تطلق المظاهرات والاضرابات ومسيرات الاحتجاج. جرى تدمير وبعثرة القوى المنظمة التي كانت تدافع عن معيشة الناس. طبعاً، تبقى منظمات المجتمع المدني، او المنظمات غير الحكومية، للضغط على حكومات تتمنع عن الاستجابة. ليس صدفة ان مطالب المنظمات غير الحكومية معظمها ثقافي او بيئي، او ما لا يتحقق الا على المدى الطويل. ينزع الراهن ويدمر لصالح مستقبل مجهول. ويمنع الناس عن صنع المستقبل، مستقبلهم، على اساس ان مشيئة عليا لرب السماء، او ربما المال، افترضت ان ما يجري طبيعة بشرية، وفرضت ذلك. فرض ذلك يتم بواسطة الايديولوجيا الشائعة، والقوة العسكرية حين اللزوم. لا أحبّ على قلب النيوليبرالية من زيادة حجم الجيوش (الرسمية وغير الرسمية) في وقت تدعو فيه لتصغير حجم الدولة وتدخلها.
الحياة البشرية تقيِّم بالمال. على هذا الاساس تدفع الفديات او الغرامات عقوبة لمن يقتل او يلحق الاذى بشخص آخر. كيف صار المال غاية؟ كيف اخضعت الحياة البشرية لهدف خارجها؟ لا يجد الرأسمال وسيلة اخرى لتقييم ثمن الحياة البشرية. هذه الحياة لا تعنيه بالكثير، خاصة اذا كانت من الطبقات الفقيرة. قيمة القيم، وهي المال، تقرر كل قيمة اخرى. بالأحرى لا قيمة اخرى في اي مجال صناعي وزراعي وخدماتي الا ويقررها المال. المال متوحش ليس بسبب كثرته والسلطة الفائقة عند اصحابه وحسب، بل، وهذا هو الاهم، بأن جعل الحياة البشرية تنحط الى مستوى سلعة مادية، وذلك عندما قرر تحويل المال نفسه، كما الارض والعمل الى سلع، وفي نفس الوقت رفع المال الى رتبة سلعة السلع.
تدان حركات الاحتجاج في العالم، خاصة التمرد الذي ظهر في عدة بلدان متقدمة، بالشعبوية حيناً وبالفاشية حيناً آخر. هي لا هذا ولا ذاك، هي حركة احتجاج لبقية الناس من المثقفين وغيرهم الذين لم يمتلكوا ادوات الفكر التحليلي لفهم مسار العالم الراهن.
لم يخطىء من قال ان الناخب الاميركي صوّت انطلاقاً من شعور بالأمان، وان الناخب في فرنسا أقل أماناً تجاه المرشحين للرئاسة، خاصة وان الرئاسة مطروحة بين حدين: القومية الفاشية والمال “المتوحش”. معنى ذلك ان المرشح الذي يعبّر عن حاجات ووجدان الشعب في الغرب غير موجود، وان الرأسمالية هنا توزع الاعمال وتطرح مرشحين بما يكون منسجماً مع البرنامج الرأسمالي ولو من نقطة جانبية. مفهوم لماذا يتظاهر الشباب ضد البطالة المتفشية على جميع الاصعدة، ومفهوم لماذا يتظاهر الشباب ضد الهجرة الوافدة. هي في المطلق تهدد العمالة الاوروبية والاميركية، لكن هؤلاء الوافدين لا يعملون في مهن او وظائف يعمل بها سكان البلاد، فلا ينافسونهم. الهجرة الى الغرب ضرورية مهما ارتفعت الاصوات ضدها. الاقتصاد يحتاجها. لكن صعود الاصوات بضجة عالية ضد المهاجرين ليس المقصود منه البحث في الحاجة او عدم الحاجة الى أيد عاملة مستوردة، بل التحريض المحلي ضد الغير، ضد الاجانب الوافدين الجدد، ضد الوافدين بشكل عام. تتجه الايديولوجيا السائدة لديهم الى الشعبوية كتحريض يكاد يصل الى الفاشية لنيل الاصوات، لأخذ الامور باتجاه آخر هو عسكرة هذه المجتمعات، وتبرير التعبئة الحربية فيها. النتيجة الطبيعية لتوسع النيوليبرالية هي نمو الدولة باشكالها العسكرية والامنية. تفترض الخطر داهماً (ولو كان صغيراً) وتحرض من أجل أخذ الاجراءات اللازمة. اميركا مثلاً تعتبر ان كل ما يجري في العالم يهدد مصالحها القومية بشكل أو بآخر.
التنامي العسكري يقود الى حرب ما، او الى حروب متعددة. في منطقتنا، في المشرق العربي الآن حرب عالمية، وان كانت حذرة. ولكن كل القوى الكبرى العالمية والمحلية موجودة. ليس مضموناً ان لا ينفجر الوضع بينها، ويصير للاعمال العسكرية أولوية على التواصل الدبلوماسي. على كل حال، هي حرب عالمية متشظية كما قال البابا فرنسيس، عن حق.
تخوض الولايات المتحدة الآن عدة حروب: العراق، سوريا، افغانستان، كوريا، البحر الاسود، الحرب على الارهاب، الحرب على التكفيريين. حروب سخونتها غير مرتفعة. لكن لا شيء يمنع من انفجار كبير حين تتوفر الظروف. الاموال الداخلية في الولايات المتحدة تستدعي ذلك. ولا شيء يمنع دخول اسرائيل على الخط بايعاز اميركي، على اساس ان اسرائيل تعمل عند الاميركيين وبرضاهم، وربما بإذن منهم.
يزداد تعقيد الاوضاع في منطقتنا. الحلول السياسية بعيدة المنال. علينا المتابعة في موضوع التنمية. لا يمكن البحث في الموضوع، اذا حدثت الامور في اطار تسوية دولية، لكنها ستحدث في اطار سلمي مهدد بالحرب على الدوام. هذا لن يكون اعماراً في اوضاع سلمية ونتيجة تسوية سلمية سياسية، بل سيجري في اطار مهدد بالحروب مرة اخرى. في هذه الظروف كيف ينطلق الاعمار من اوضاع لا تسوية فيها، كما تعودنا في لبنان مثلاً، في اوضاع من نوع مغاير. اعمار تشرف عليه فروع الجيوش العسكرية، وسيتم الاعمار بإشراف هذه القوى العسكرية.

تنشر بالتزامن مع الاعمار والاقتصاد

Exit mobile version