طلال سلمان

التفكير إمبراطورياً

خلال الأسابيع الأخيرة لم أحضر نقاشا جادا حول مستقبل الشرق الأوسط إلا وخرجت بانطباع لم أعهد كثيرا مثله من قبل. سياسيون “عتاقى” وأساتذة وخبراء علاقات دولية من الذين اختلطوا حديثا بأقران لهم في الشرق، في كوريا واليابان وباكستان مثلا، وبأقران في الغرب أيضا، صاروا يهتمون كثيرا في مداخلاتهم في دوائر الحوار بأدوار “دول ورثت حضارات قديمة”. مقابل هذا التطور اللافت للانتباه في محاولات لفهم “المرحلة الثورية” الراهنة في العلاقات الدولية، صار في حكم المستقر في أذهاننا أن دولا في الغرب راحت بعد الحرب العالمية الأولى تستعير من تاريخها أساليب إمبراطورية في الحكم وفي التوسع. استقر أيضا أن هذه الدول بعد أن اشتركت في رسم خرائط أقاليم عديدة وإقامة نظم دولية الواحد بعد الآخر تباطأت خطواتها وتعثرت مسيراتها. قليلون بيننا هم الذين يتوقعون من فرنسا وبريطانيا مثلا تأثيرا حاسما في المرحلة القادمة من التطور السياسي في أقاليم كالشرق الأوسط وجنوب شرقي آسيا.

***

قمت بإجراء مقارنة ذهنية بين ما تنفذه فرنسا وما تنفذه الصين من خطط عبر سياستيهما الخارجية بهدف توسيع دائرة نفوذهما إقليميا ودوليا. سمعت الرئيس ماكرون يحلم برقعة واسعة من العالم فرانكفونية الثقافة يتجاوز عدد سكانها الناطقين بالفرنسية عدد الناطقين بأى لغة أخرى. يتخيل الرئيس الفرنسي أن الحلم سوف يتحقق في أحسن الظروف بعد نحو ثلاثين عاما. عدت أقرأ خطة الرئيس شي تحت عنوان مبادرة الحزام والحرير لتزداد ثقتي في أنها تعكس فكرا مختلفا وتعبر عن ذهنية أكثر طموحا وتعقيدا وتدفعها طاقة متجددة من بشر وإمكانات ونوايا إمبراطورية تتجاوز نوايا السيد ماكرون. تعود بك الخطة الصينية إلى القرن الثالث عشر، القرن الذي شهد تنفيذ ماركو بولو مشروع طريق الحرير. بدأه من إيطاليا وسار به مخترقا وسط آسيا متوجها إلى غرب الصين. لم يفته أن تكون العودة عن طريق بحر الصين الجنوبي فالمحيط الهندي. يؤكد المشروع الصيني في طبعته المنقحة والموسعة الثقة التي يوليها المجددون في دول آسيا لإنجازات المراحل الإمبراطورية في تاريخ أممهم وضرورة الاستفادة منها. كلهم واعون لدرس اليابان. اليابان بانتصارها على روسيا في مطلع القرن العشرين وبشنها الهجوم الشهير على القاعدة الأمريكية في بيرل هاربور قرب منتصف القرن أساءت اختيار لحظة إعلان نوايا شرق يستيقظ بينما الغرب يبدل قيادته ويجدد لياقته.

***

احتاجت البشرية إلى قرون عديدة لتتشرب حضارة الغرب وثقافة الرجل الأبيض. شعوب عديدة انتهت عند نسخ مشوهة، مزيج من الغرب والشرق لا هو الغرب خالصا ولا هو الشرق صافيا. دول كثيرة معاصرة عانت مرارة الانتقال إلى الغرب لتكتشف أنها بعد مئات السنين وعديد التجارب لم تزل مشدودة إلى ماض يرفض أن ينصرف أو يتطور. بعضها كان فيه ما يكفيه من صراع الهويات التقليدية ليزيد عليه الانتقال أثقال هويات وافدة من صنع شعوب وحضارات أخرى. المواطنة لم تكن من صنع شعوب الشرق وحضاراته ولا كانت القومية. قيم جاءت مع الانتقال لم يكن لها شبيه أو قرين أو جذور في ثقافات شعوب كثيرة. بينها قيم جاءت تهز قواعد استقرت منذ قرون. جاءت بين ما جاءت قيمة الإنسان وقيمة الحرية وقيمة الزمن. حدث هذا عندما وصلت طلائع شركة الهند الشرقية إلى شبه القارة الهندية ومنها انتقلت ومعها شحنات الشاي والأفيون إلى الصين. حدث عندما وصلت بوارج نابليون إلى الإسكندرية ونزل جنوده وعلماؤه إلى البر. حدث في الأمريكتين يوم اكتشفهما كولومبوس ولحقت به أساطيل إسبانيا ومراكب الفارين من عنف الصراع الديني. وقتها حمل المبشرون والجنود والحجاج رسالة من الرجل الأبيض رسالة يشهد التاريخ أنها لخصت بكل الأمانة الواجبة كذب الغرب في تلك المرحلة الاستعمارية ونفاقه ونواياه تجاه الشعوب غير البيضاء. من هذه الشعوب ما أبيد ومنها ما استرق ومنها ما عذب وشرد ومنها ما استخدمته آلة الاستعمار ليزيد عائدها ويخدم أهدافها ويؤمن مصالحها.

***

الغرب المقيم فينا هو الآن مهدد. ومع ذلك ما زلنا نقيس بمعاييره مدى ما حققته شعوبنا العربية من “تقدم”. فقر أقل وأوبئة عابرة. حققنا بالتأكيد ومعنا كثير من شعوب إفريقيا سلما نسبيا أوفر منذ أن حرم الاستعمار الغربي على القبائل الاقتتال العرفي وصراعات التوريث والقرصنة وحرم على فلول الإمبراطوريات التقليدية المهزومة أو المنكسرة تبادل شن الغارات مع كيانات في الجوار أو منشقين محليين. بل إنه مهد لنهاية عهود كعهد المماليك في مصر، وإن كان لصالح إمبراطورية أخرى وصالحه، ومهد لنهاية العهد الإمبراطوري في الصين وفي الهند وفي شمال أمريكا الجنوبية، وأوقف استعدادات شعوب في إفريقيا لإقامة أو توسيع إمبراطوريات أفريقية في غرب القارة. استغرقت هذه الإنجازات تحضيرا وتنفيذا وقتا طويلا لافتقارها إلى تكنولوجيا متطورة في الاتصال والنقل والمواصلات والحرب كتلك التي تتوفر حاليا للقوى الأسيوية الصاعدة.

***

أنظر حولي، أنظر هذا الصباح من موقعي العربي في الشرق الأوسط فأرى جديدا. أرى نفوذ الغرب كقوى استعمارية ينحسر. أرى مناطق نفوذه تنكمش. أرى جماهير جامحة من أفريقيا وآسيا تجاسرت فاقتحمت حدوده وفرضت نفسها رعايا على أرضه أو معتدين على مقدساته وأرواحه. أرى حكومات من بني جلدتنا تكاد تستجدي الغرب استعادة قوته وتجديد آلياته الاستعمارية وملئ فراغات الهيمنة في منطقتنا. أراها حكومات على عجزها أكرم وأسخى عطاء وأراه غربا وللغرابة مترددا في قبول العطايا. أرى الرأي العام في الغرب لا ينظر بعين الرضا إلى جل تاريخه الاستعماري وغير مرحب بدول تستدرجه طرفا في صراعاتها، صراعات لا تفيد الغرب كما كانت تفيده في الماضي عندما كان يستعمر هذه المناطق. أرى في قلب الإقليم رؤى متناثرة وأحيانا متضاربة وكثيرا ما أراها رؤى غائمة لا توجد إلا في مجتمعات شاخت طبقتها السياسية فكرا وبصيرة أو نضبت عقيدة وأحلاما. في الغالب لم يعد للتاريخ عندها مكانة أو منفعة، تجاهلته جهلا أو تكبرت عليه بالنية المبيتة.

***

أرى شيئا آخر. أرى زحفا نحو هذا القلب العربي، الشرق الأوسط كبيرا كان أو صغيرا، زحف من أجل النفوذ أساسا ولكن أيضا من أجل أهداف أخرى. الزحف قادم من بعيد جدا ومن قريب جدا وفي الحالتين تدفعه وتحركه وتغذيه أفكار من تراث إمبراطوري. الزحف القادم من بعيد هو من الصين وبعده بسنوات قليلة تصل أمواج أخرى أيضا من بعيد وأقصد الهند ومعه أو في ركابه اليابان الجديدة، ولكن أيضا مدفوعة بفكر امبراطوري. الشرق البعيد تحرك بالفعل محملا بمصالح، وليس برسائل، وإن وجدت الرسائل فلن تأتي قبل أن يستقر المقام بالمصالح المادية. لا أرى الصين أو الهند مستعدة لتبديد امكانات إمبراطورية غالية على صراع أيديولوجي أو إنساني أو ثقافي مع الموروث في الشرق الأوسط من حضارة الغرب وثقافة الفتاوى الدينية وصراعات القوة الهزيلة. كلاهما، الزحف القادم من بعيد والزحف القادم من قريب أى من نواحي الجوار المشبع بفكر امبراطوري، يدرك أن قلب الشرق الأوسط، القلب العربي، بوضعه الحالي لن يشكل عقبة على طريق التوسع في النفوذ الإمبراطوري الصيني أو الهندي. واضح وضوح الشمس أن قيادات القلب العربي ترفض الاستعانة بأى فكر بناء أو إيجابي خلفته امبراطوريات “عربية المنشأ” أو إمبراطوريات كان للعرب في توسعها ونهضتها وصنع تراثها الفضل الأكبر. نقرأ الخطاب السياسي العربي الراهن فلا نجد فيه دليلا على صلة أو تمسك أو علاقة إعزاز بفكر وطموح مرحلة إمبراطورية عربية بعينها.

العكس تماما نقرأه في الخطاب السياسي لكل الدول الزاحفة نحونا البعيد منها والقريب. نقرأ فيه استلهاما من عقيدة إمبراطورية واسترشادا بطرق سلكها السابقون وأساليب استخدموها. نقرأ ونقارن وندعو للانتباه.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version