طلال سلمان

التاريخ يعيد نفسه: 13 نيسان واحدة تكفي!

نشر هذا المقال في “السفير” في 13 نيسان 2007

ليس 13 نيسان يوماً من الماضي. إنه يتبدى، في هذه اللحظة، وكأنه يوم ممطوط كدهر منذ العام 1975 وحتى الغد الذي سيحمل بعض تشوهاته التي استولدتها خلافات جديدة كانت تتبدى ثانوية جداً فإذا الدول المحتشدة في ثناياها تجعلها مصيرية !!

أي لبنانيين يلتقيان في ظلال الذكرى الثانية والثلاثين لذلك اليوم الأغبر الذي سيغدو مدخلاً إلى تاريخنا المعاصر، يتسابقان إلى طرح السؤال الذي يعرفان كلاهما أنهما لا يملكان جوابه: أهي الحرب الأهلية كرة أخرى؟! وهل باتت قريبة منا حقاً بحيث انعدمت أمامنا الفرص لتجنبها؟!

حتى بعد 32 سنة لم يتفق اللبنانيون على رواية واحدة، صادقة وموثقة مهما كانت مؤلمة إلى حد الجرح، لتلك الحرب، بما يمكنهم من طي صفحاتها السوداء والتحرر من كابوس ذكرياتها المؤلمة… ولذلك قد يرى بعض الناس أنها لم تنته تماماً!

وكما للحرب الماضية روايات عدة، متناقضة غالباً، تختلف باختلاف رواتها وانحيازاتهم وأبطالها الذين ما زال بعضهم نجوماً يتقدمون الصفوف في مواقع القيادة في هذه الجبهة أو تلك، كذلك فإن للحرب الجديدة ذرائع متعددة هي طبعات منقحة ومزيدة عما استخدم لتعبئة الجمهور وحشده في طوابير القتال تحت شعارات ليست هي الهدف الفعلي للحرب قبل 32 سنة.

وكما قيل في الحرب الأهلية السابقة إنها حروب الآخرين على أرضنا، يقال اليوم، بغير الإشارة إلى أن كل الحروب الأهلية، في كل زمان ومكان، تبدو في أكمل تجلياتها حروب الآخرين على أرض غفل أهلها عن حمايتها وحماية مستقبلهم فيها؟!

يقول المتشائم: إن تاريخ لبنان ليس إلا سلسلة من الحروب الأهلية تتخللها فواصل من السلم الأهلي الهش، نتيجة اختلال في التوازن بين الدول أو تصادم مشاريعها فوق أرضنا.

ويقول المتفائل: إن الحرب الأهلية هي وحدها الطريق إلى الغد الأفضل.. لكن الغد الأفضل هو الضحية الأولى لأي حرب أهلية.

الرعب يمسك بتلابيب اللبنانيين. يقلقهم في لياليهم الطويلة، ويضيق عليهم أسباب العيش في نهاراتهم المظللة بهواجس الخوف بعضهم من البعض الآخر. يهجر شبابهم وهم بكفاءاتهم عدة المستقبل الأفضل. يخرب اقتصادهم، ويفقرهم، ويضرب آمالهم برخاء كان يبدو متاحاً، لا سيما مع الطفرة الهائلة في مداخيل النفط عند إخوانهم العرب الذين طالما أحبوا لبنان مصيفاً ومصرفاً ودار متعة ومجال استثمار مجزٍ.

الرعب يسد طريق الغد… فالخلاف السياسي الذي تبدى طبيعياً ومحصوراً في خانة الاجتهاد حول وظيفة الحكم ودور الدولة في المجتمع، تفجّر بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في الصيف الماضي تناقضاً حاداً حول موقع لبنان في منطقته بل حول هويته في مواجهة المشروع الذي أطلقته الإدارة الأميركية إثر احتلالها العراق تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد الذي طريقه الفوضى البناءة.

ثم أخذ المختلفون يعززون جبهاتهم المتواجهة، فأسقط ما كان مقدساً وما كان موضع اتفاق ضمني عام، حتى لو لم يصل إلى الإجماع، بما في ذلك العداء لإسرائيل.

صارت الدول في الداخل. وصار الداخل جبهات دولية متواجهة.

الحرب الأهلية تبدل في القيم والمفاهيم وليس فقط في التحالفات السياسية.

وها نحن نشهد تحالفات مستجدة بين من كانوا يتواجهون بالسلاح في الحرب الأهلية التي امتدت ما بين 13 نيسان 1975 (أو للدقة ما بين محاولة اغتيال الشهيد معروف سعد في صيدا في 26 شباط 1975) وخريف ,1990 متجاوزة اتفاق الطائف في خريف ,1989 الذي أعاد صياغة النظام السياسي وأرساه بطبعته الجديدة على قاعدة المشاركة التي كانت مطلب الأكثرية التي نراها الآن منشقة على ذاتها وتكاد تتواجه بينما لا سبب يتصل بطبيعة توزع مواقع السلطة يفرض مثل هذا الانشقاق وهذه المواجهة.

بين 1975 و2017 تبدلت مواقع القوى، وتفرّقت صفوف الحلفاء، فتحالف من كانوا خصوماً، واختصم من كانوا حلفاء وفقدت المشاركة نقطة ارتكازها الدستورية الثابتة فصار النظام كله في مهب الريح، لا يحميه من السقوط إلا دعم الدول التي تريد توظيف الأزمة اللبنانية في حروبها المفتوحة ضد هوية هذه المنطقة العربية وضد حقها في مستقبلها.

لكأنه مفروض على اللبنانيين الذين قاتلوا مرة دفاعاً عن هوية هذه الأرض فتواجهوا بالسلاح، أن يقتتلوا مجدداً بعدما تبادلوا المواقع فتبنى العروبيون منطقاً كانوا يعتبرونه انعزالياً، وانحرف التقدميون نحو مواقع طائفية وصار الحالمون بالتغيير متهمين بالمذهبية.

لكأن اللبنانيين لم يتعلموا الدرس المكتوب بدمائهم.

هل يستطيع أي قائد أو زعيم أو مرجع، زمنياً كان أم روحياً، أن يطمئن الناس إلى أن هذا الوضع الهش لن يتفجر بأهله في أية لحظة، إن لم يكن نتيجة تخطيط فنتيجة خطأ في الحساب، أو سوء تقدير للانفعالات وتوتر العواطف، خصوصاً وقد دخلت الدول بمصالحها في ثنايا المشاعر ونجحت في توظيفها لحسابها؟!

أم أن اللبنانيين لطول سكنهم في مناخ الحرب الأهلية احترفوها؟!

هل سقط حاجز الخوف من الموت ولو على حساب القضية بدلاً من الشهادة من أجلها؟

أم أن اللبنانيين سيفرضون على قيادتهم التنبّه وعدم جرّهم مرة أخرى إلى الحرب الأهلية التي يتندّر بعض العرب بأنها صارت عند اللبنانيين مهنة ومن قبل كانوا يتندرون بأن اللبنانية مهنة وليست هوية؟!

فلنأمل أن تكون الذكرى مناسبة للانتباه وتجنب تكرارها!

Exit mobile version