الصين خانها الحظ. كان الأمل أن تحصل قمة البريكس التاسعة المنعقدة على أراضيها على اهتمام أوسع محليا وإقليميا ودوليا. لم يتحقق الأمل بالدرجة التي تمناها المسئولون الصينيون. لا أحد يستطيع إلقاء اللوم على منظمي المؤتمر فقد بذلوا أقصى الجهد في التخطيط والترتيب والتنفيذ ليخرج المؤتمر ناجحا وتاركا بصماته على مسارات السياسة الدولية لسنولت عديدة قادمة. حصلت الأطراف المشاركة، كل على حدة، على ثمرة أو أخرى من ثمار المؤتمر، ولم تحصل المجموعة ككل على زخم إضافي، هي في الواقع لا تستحقه، والأسباب واضحة.
***
لا يمكن إغفال دور الأزمة الكورية في إهمال التغطية الاعلامية لقمة البريكس من جانب الإعلام الغربي المسيطر حتى الآن في الساحة الدولية. تصادف مع انعقاد المؤتمر قرار كوريا الشمالية إعادة فتح ملف علاقتها بأمريكا في وقت كانت أمريكا في أمس الحاجة إلى قضية خارجية خطيرة إلى درجة تكفي لتفرض التغيير في هيكل قيادة البيت الأبيض واستعادة الانضباط إلى العلاقات بين مؤسسات القرار في واشنطن. تصادف أيضا أن العالم الخارجي بما فيه عالم البريكس كان مهتما إلى درجة قصوى بتطورات النزاع بين أمريكا وكوريا الشمالية وتطورات ترميم جهاز صنع القرار الأمني في واشنطن. غطى هذا الاهتمام منفردا على اهتمام كان متوقعا في عديد الدول بانتخابات ألمانيا ومصير “دولة السيدة آنجيلا ميركيل”. غطى أيضا على أنباء تشتيت داعش أو إعادة توزيع أفراده وقادته، وغطى بالتالي على الاهتمام الذي يستحقه الفصل الأهم في رواية الثورة السورية. المهم، في كلمات قليلة، لم تحصل قمة البريكس على اهتمام كانت تنتظره من الإعلام الدولي.
***
أرادت القيادة الصينية أن يحظى المؤتمر بأقصى الاهتمام الممكن من جانب الرأي العام الصيني. كان يهمها بطبيعة الحال أن تستفيد من المؤتمر خارجيا للترويج لسياسات العولمة على النمط الصيني، وهي السياسات التي عرضها الرئيس تشي على مؤتمر دافوس في يناير الماضي. لم تستفد بالقدر الكافي رغم حاجتها الشديدة إلى دعم المجموعة لها في قضايا عديدة شائكة تتعلق بمشروعات الحزام والطريق، أو ما كان يسمى طريق الحرير. أظن أن القيادة الصينية أرادت أن يكون انعقاد المؤتمر في هذا التوقيت إشارة قوية إلى كافة أجهزة وفروع وخلايا الحزب “الشيوعي” الصيني بأن الرئيس تشي يعد البلاد، ونخبته الحاكمة، لنقلة جديدة يعتقد أنها لن تكون أقل أثرا من الانتقال العظيم الذي دشنه الرئيس دينج قبل حوالي أربعين عاما، وكان تشي وقتها موظفا صغير ببلدية “جيامين” المدينة التي اختارها لينعقد فيها مؤتمر البريكس.
***
في واقع الأمر لم تحقق مجموعة البريكس معظم الآمال المعقودة عليها. أنا شخصيا وكثيرون أقرأ لهم لم يضعوا لها مكانا بارزا في الاعتبار عند تحليل أزمة دولية أو أخرى. بل أذهب بعيدا فأعترف بأنها لم تكن طرفا حاسما في تسوية نزاع، ولم تغير قليلا أو كثيرا في التوازنات الدولية القائمة. لم تنشئ تيارا دوليا على مستوي تيار عدم الانحياز أو شبيها به. لم تتدخل كمجموعة دولية لتفرض تغييرا في مجلس الأمن أو بالأحرى في منظومة الأمم المتحدة. لم تقدم خطة عالمية لوقف سباق التسلح كخدمة كبرى للسلام العالمي، بل على العكس تصدر معظم أعضائها قائمة أعلى النسب في ميزانيات الأمن والدفاع. لم تستبعد العمل العسكري أسلوبا له الأولوية في سياساتها الإقليمية. على سبيل المثال لم تتردد روسيا في التدخل العسكري في جورجيا وأوكرانيا أو إعادة احتلال شبه جزيرة القرم رغم عضويتهاعلى الأقل في مجموعتين التزمتا مبادئ التعايش وحسن الجوار. أما الصين فراحت تشاكس كل جيرانها ابتداء باليابان ومرورا بالدول المطلة على بحر الصين الجنوبي، وتبني جزرا دفاعية وتقيم قواعد “تجارية دفاعية ” في باكستان وميانمار وجيبوتي. أعتقد أن الهند لن تنتظر طويلا لتكون لها سياسة خارجية توسعية على هذا المستوى إن تمكنت ومكنتها الولايات المتحدة. يقال ويتردد كثيرا أن البريكس تكتل اقتصادي صاعد وواعد. الحقيقة، وبدون النية في التجني على مسيرة هذه المجموعة، هي أننا لم نلاحظ على اقتصادات دول هذه المجموعة أنها تتعامل فيما بينها باعتبار كل منها ترس في تكتل اقتصادي. هي اقتصادات بعضها هائل وواعد لا تتعامل فما بينها أو مع العالم الخارجي على أسس ومبادئ اندماجية أو حتى تكاملية. شتان ما بين السلوك الاقتصادي لدول البريكس وسلوكيات الدول أعضاء مجموعة الحديد والصلب وبعدها دول السوق الأوروبية المشتركة قبل ستين عاما أو ما يزيد. لعل السنة القادمة تشهد تطورا على هذا الصعيد في ظل القيادة الصينية للمجموعة.
***
ثلاث قضايا، كبلت في رأيي هذه القمة. قضية معلنة وقضية كامنة وقضية دولية. إذ جاء “مودي” إلى المؤتمر حاملا اقتراحا لا يمكن رفضه أو التردد في تبنيه قرارا من القمة. جاء يطلب إدانة حركات إرهاب عينها بالاسم أكثرها بل كلها إسلامية التوجه، ومعظمها يعمل من باكستان أو يتمتع بنوع أو آخر من حمايتها. القضية رغم وضوحها وأهميتها بالغة الحساسية لأنها تتعلق من ناحية برغبة هندية أمريكية صريحة لتلعب الهند دورا أنشط في أفغانستان وهو تطور تنظر إليه الصين بشك كبير. ومن ناحية أخرى تمس جوهر علاقات الصين بباكستان، وهي العلاقات التي تمثل القاعدة الأهم في مشروع طريق الحرير، أمنيا وتجاريا.
القضية الكامنة، أراها قضية مسكوت عنها إلا في دوائر العصف الفكري وأجهزة صنع القرار الأمني، وهي العلاقة الدقيقة جدا القائمة بين بكين وموسكو. لا ننسى أن البريكس قامت عندما كانت الصين “تحبو” نحو مكانة دولية مناسبة. الصين الآن تتصدر السباق نحو مناصب القيادة الدولية، وفي موازاتها أو على مسافة خطوات أمامها تركض روسيا البوتينية. المؤكد، في نظري وقد يكون في نظر القادة الروس أيضا، أن الصين خلال هذه السنوات انتقلت من الرغبة في التقدم الاقتصادي السريع إلى الرغبة في القيادة والآن إلى الرغبة في الهيمنة، علما بأن الصين درجت على تخصيص هذا التعبير لسياسات الدول الإمبريالية. لاحظت أيضا في الآونة الأخيرة كثرة التعليقات الإعلامية الهندية التي تحذر من أحلام لدى القيادة الصينية بالانفراد بقيادة نظام دولي أحادي القطبية قبل مرور نصف قرن.
من حق روسيا أن تقلق. وحدها لن تتمكن من قيادة مجموعة أغلب أعضائها من العالم الثالث. وحدها مع الهند لن يستطيعا المحافظة على استمرار عمل وتقدم مجموعة من دول العالم الثالث تخلو من الصين، الاقتصاد الأكبر في المستقبل. نعم من حقها أن تقلق، فجميع مشروعات طريق الحرير يتوقف نجاحها على محطات حماية وتزويد وربما تحالف مع دول في وسط آسيا واقعة حتما تحت النفوذ الروسي. الاثنتان، الصين وروسيا، أفضل لهما ألا يتخلى أحدهما عن الآخر في السنوات القليلة القادمة. كلاهما يكونان أكثر من نصف القوس الممتد من بحر الصين الجنوبي في آسيا الى بحر الشمال في أقصى غرب أوروبا. كلاهما جزء عضوي في تنفيذ حلم أوراسيا.
ليس سرا في عقيدتي كل من الصين وروسيا أن الصين لن تستغني يوما عن أوربا فتتحالف مع روسيا ضدها، أو أن روسيا تستغني يوما عن أوروبا فتتحالف مع الصين ضدها. كما أن هذا الأمر المتجذر في عقيدتي كل من روسيا والصين ليس غائبا عن هذا التحليل أو عن أوروبا، وبخاصة عن ألمانيا والمملكة المتحدة.
***
القضية الدولية التي اشتركت في تكبيل حركة ونتائج مؤتمر قمة دول البريكس كانت الأزمة الدولية التي فجرتها بيونجيانج بإجرائها تجارب صاروخية متقدمة وتجربة تفجير قنلة هيدروجينية تحت سطح الأرض. استحوذت هذه القضية على مساحات واسعة من نشاط مختلف دبلوماسيات العالم، وأدخلت أطرافا مثل مصر إلى حيز الصراع بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة. المهم أنها سحبت من نصيب مؤتمر البريكس من الاهتمام الدولي وكادت تخفي مدينة جايمين من خريطة الإعلام.
***
الطريق أمام البريكس، كمجموعة دولية يجب أن تكون فاعلة ومؤثرة في جهود إقامة نظام دولي مختلف، طريق طويلة ومعقدة. ما زالت البريكس وكما أراها الآن تعتمد بالدرجة الأولي على عاملين. تعتمد على إمكانات الصين وعلاقاتها التجارية ومكانتها العسكرية. تعتمد أيضا على اتفاق ضمني بين المؤسسين، والطامحين إلى العضوية في المستقبل، على التصدي لهيمنة النظام الليبرالي العالمي ومنظومات الحقوق والحريات الانسانية والتزام العمل المشترك من أجل إسقاط هذا النظام وإقامة نظام آخر لا اسم له أو عنوان محترم.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق