طلال سلمان

الافتراق حماية للحب!!

كانا لا يفترقان. تقدما معا للعمل معي كمتدربين. اطلعت على سيرتيهما الذاتية وسألت وتحريت. لا غموض من أي نوع يحيط بأي منهما أو بالعلاقة التي تربطهما. شابان، طالب وطالبة جمعتهما قاعة درس وكراسات متبادلة وقهوة وشاي بالحليب في كافيتريا الكلية وأستاذ اتفقا على اختياره مرشدا وموحيا ومعلما. طورا بالرضا وما يشبه الحب علاقة أخذت في البداية شكل ومضمون واسم الزمالة ثم الصداقة الحميمة وفي النهاية ومع اقتراب التخرج عواطف لا يخفيها حرج أو قيود. تعلقا بكل فرصة تتيح لهما الاستغراق في تفعيل مشاعر الحب المتأجج بالرغبة وطول الانتظار وضغط  التمرد على الموروث من التقاليد والقيود. لم تنظم رحلة إلى خارج أسوار الجامعة إلا وتقدما للاشتراك فيها، ففي هذه الرحلات وبخاصة المتجهة إلى بعيد تزداد فرص الانفراد ببعضهما. بدآها في سنوات الجامعة الأولى برحلات إلى الفيوم والواحات والإسكندرية وفي السنوات المتأخرة إلى أسوان وسانت كاترين وسيوة وغزة وليبيا حتى جاء الدور على أوروبا.

عرفت منهما، معا أو من كل على حدة، أن كل رحلة من هذه الرحلات تركت علامة على مكان أو آخر من جسديهما أو في قلبيهما وأحيانا على عقليهما. سمعت منهما معا أو من أحدهما منفردا أو منفردة وصفا أو آخر لشارع في غزة أو لاحتفال في قرية في جبال النوبا القريبة من الأبيض عاصمة الإقليم أو لحانة أو مطعم في روما في زقاق ينتهي عند نافورة تريفي. الأوصاف التي سمعتها منهما تختلف في تفاصيل بعينها  عن أوصاف لنفس المكان صغتها ثم حملتها بين ضلوعي لسنوات عديدة. لم أصحح وصفا أدلت أو أدلى به زميلها لأشهر السلالم السياحية في العالم وأقصد تحديدا سلالم ميدان إسبانيا في وسط العاصمة الإيطالية، كنت هناك قبل سنوات عديدة شاهدا على ولادة حكايات حب متنوعة أو على النطق بوعود زواج أو على بهجة لا تضارعها بهجة أخرى قابلتها في أي مكان آخر قضيت فيه وقتا طال أو قصر. سمعت من كل منهما وصفا مختلفا لمصلى سيستينا في كنيسة القديس بطرس بالفاتيكان. كنت تعلمت في مرحلة أو أخرى من مراحل نضجي أن نظرتي إلى شيء أو بالأصح ما ينقله بصري إلى عقلي وإلى وعيي قد لا يتفق بالضرورة مع ما التقطته عين شخص آخر. اعتبرت وصف كل منهما لسقف سيستينا شابل وسلالم ميدان إسبانيا حقا لهما لا انازعهما فيه، وكذلك وصفهما لليلة ساحرة تفلتا فيها من سلطة الاستاذ المشرف على الرحلة وغابا لينغمسا في صخب وروعة مقاهي حي التراستيفيري، وترجمتها عبر التيفيري، وهو النهر الذي يتوسط جانبا من مدينة روما، المدينة الخالدة حسب رأي وعقيدة سكانها، وربما رأي كل من استوطنها  لسنوات أو أيام معدودة.

متعة، وأي متعة!، الاستماع بقلب مفتوح ونفس باحثة عن السعادة إلى فتاة في العشرين من عمرها تعيش الحب في مدينة الجمال والمرح، تراه في كل تمثال وما أكثر التماثيل هناك، وتحس به عند كل لمسة من زميلها المنغمس في الحب إلى حد لم يحس بمثله من قبل. كم تمنيت وأنا أسمع منهما عن رحلاتهما  الداخلية والخارجية أن يكون بيني وبينهم مسجل يسمح لي بأن أسجل لهما كلمات صدرت عنهما، كل كلمة منها بلون أو لحن مختلف. تمنيت لو أن هذا المسجل استطاع أن يسجل في الوقت نفسه لقاءات حميمة  جرت تحت الموائد لأقدام متلهفة لا تشبع ولا تنتظر.

•••

مضت عشرة أعوام من يوم تقدما بطلب أن يتدربا. تزوجا خلالها ونجحا فكان زواجهما نموذجا يحتذى.  اتصلا يقترحان لقاء معي في مكتبي. انتظرتهما بلهفة. وصل منفردا ولحقت به منفردة. اندهشت وازدادت الدهشة عندما ألتقيا أمامي مرحبين ببعضهما باحتشام. اختارا مقعدين متواجهين وبينهما فراغ واسع، فراغ لا يسمح بتماس الأقدام أو تلامس الأيدي. الفراغ لم يسمح ولا النوايا وربما انحسار الرغبة. لم يكن هناك شك في أنهما اختارا بدم بارد وعقل ثابت وبعد كل هذه السنوات الرائعة، اختارا أن يفترقا.

لم تكن بيدي حيلة توقف الافتراق ولو باسم هدنة لعل وعسى. الغريب في الجلسة أنها لم تكن باردة، وبالتأكيد لم تكتنفها أي تصرفات عدوانية. لم أسمع كلمة عتاب واحدة تبادلاها وكذلك لم تبدر من أي منهما كلمة تكشف عن ألم بسبب حب أقام طويلا وغادر. لم أسمع منهما تعريفا يناسب العلاقة التي كانت تربط أو تفصل بينهما في تلك اللحظات. وجدت صعوبة في فهم ما يدور أمامي. أهي عاطفة أخرى حلت محل الحب؟ أم هي الحب ذاته ولكن أقل درجة؟ كنت قد سمعت، ولم أتبين شيئا مما سمعت، سمعت أن الحب أنواع أو أنه يأتي ويتصاعد ويغادر متدرجا حرصا على ألا يتسبب في دخوله أو خروجه في صدمة أو يترك جروحا صعب أن تندمل. أعرف، على العكس، أنه يأتي في كثير من الأحيان مفاجئا ويتصاعد بقفزات واسعة ويغادر في لحظة متسببا في كوارث. سمعت أيضا أن الزواج القائم على حب قوي نادرا ما يتحول إلى صداقة تؤدي بعض وظائفه وتعوض فقده وتحتوى آلام فراق وتداوي العلل الناجمة عنه. وسمعت النقيض، لا شيء على الإطلاق يملأ الفراغ الذي ينتج عن فراق، لا شيء في هذه الدنيا يعوض فقد الحب. مرة أخرى أجد نفسي مترددا في تبني رأي أو آخر من هذه الآراء والمواقف.

انتبهت على صوتها تستأذن في الانصراف على أمل عودة قريبة لاستكمال ما بدأنا. توقفت قليلا مترددة ثم أقبلت على صديقها، زوجها السابق وحبها القديم، تحتضنه حضن الأصدقاء وتودعه بطلب أن يبلغني  قرارهما الدخول مشاركة في مشروع إنشاء مركز تدريب وتقديم استشارات ورأيي في المشروع. ودعتها حتى باب المصعد، فتحته ودلفت وقبل أن تغلق الباب الداخلي عليها قالت “أعرف أن فضولا يدفعك بقسوة لتعرف تفاصيل أكثر عن أسباب افتراقنا. لقد اتفقنا ألا نخفي عنك شيئا، أسأله إن شئت فهو باق عندك لوقت أطول. أعدك أن أعود غدا أو بعد غد لتسمع ما عندي”.

•••

رجعت إلى غرفتي. وجدته واقفا عند الشباك مستغرقا في النظر إلى أضواء مدينة لا تنام مبكرا كغيرها من مدن العرب باستثناء بيروت والدار البيضاء. بعد قليل استدار قائلا “أنا تحت أمرك للإجابة على أي أسئلة تتعلق بالافتراق وأسبابه وبالشراكة التي ننوي الإقدام عليها بثقة وجرأة. يجب أن تعرف قبل أن تأذن لي بالكلام أننا مدينون لهذا المكان بأيام هي الأطيب والأحلى. هنا بلغ الحب بنا ذروته قبل أن نتزوج. هنا  وجدنا الحماية والحصانة. اليوم اتفقنا أن نأتي إليك لنجيب عن أسئلة من حقك أن تسألها.. قاطعته قائلا  وفي حلقي غصة “لا ليس من حقي عليكما إشباع فضولي ولكن أعترف أني أريد أن استزيد من تجربتكما  في الحب علما وفهما، كنتما في الحب نموذجا ويبدو أنكما في الافتراق وما بعده أيضا ستصنعون نموذجا.   يا عزيزي لا شك أنك تدرك جيدا أنه في وقت صار الافتراق أكثر شيوعا من استمرار الاقتران يهمني بالتأكيد أن أعلم وأفهم.. فتكلم من فضلك”.

تكلم فقال “لن أطيل فقد أخذنا من وقتك كثيرا. أنا مسئول عن جانب كبير مما آلت إليه الأمور بيننا.  إحساس في داخلي بدأ صغيرا. لم أعطه أهمية فراح يكبر. طاردته ولم ينحسر. سيدي!، هل سمعت عن إنسان يشبع من الحب. عشت كما تعلم تجربة حب لا أظن أن كثيرين كان لهم تجربة مماثلة أو حتى قريبة. قليلون كان لهم مثل حظي في الحب. كنت واثقا أنني ولدت من جديد يوم تعارفنا. أقسم لك أنني لم احتفظ  إلا بالقليل من تقاليد وأخلاق يفترض أنني ورثتها عن عائلتي. كل القيم والصفات التي تميزت بها تشربناها معا. صنعنا أسطورة وعشنا تحت ظلالها. تخرجنا وخرجنا إلى العالم لنعمل، هناك كان يغلب الإحساس بأني غريب عن المكان. كنت أتعامل كالسائح القادم من ثقافة أخرى، ثقافة سلم وثقة وجودة عالية والتزام بالكلمة والوعد. كدت يوما أصرخ في الناس أنا لست منكم. أنتم تكذبون وتسرقون وتغشون وتحسدون لأنكم لم ترضعوا أو تتشربوا ثقافة الحب. أنا رضعتها وتشربتها على طريقي من المراهقة إلى الرجولة. أنتم مختلفون.

لا تفسير عندي ولا أنا أبرر. إنما انتهز الفرصة لأسألك هل تصرفاتي تعكس جانبا من ظاهرة تمرد الرجل على الاستقرار. قيل ويقال أن الرجل يقاوم النطق بكلمة الحب بل ويخشاه، وبخاصة هذا النوع القوى منه، لأنه يصنع حياة أمثل لا موضع فيها لتحولات ومغامرات. الحب فيها هو الثابت الأعظم والقيمة الأعلى. الحب آلة ونحن تروسها. سيدي، تمردت لأنقذ الحب ورفيقة عمري من عواقب انصياعي واستسلامي له. أغفر لي إن كنت أخطأت أو تجاوزت. أستأذنك في الانصراف على وعد بالعودة  بعد أن تكون استمعت لها”.

•••

مشيت معه لأودعه كما ودعتها عند باب المصعد. استدعينا المصعد. وصل بعد تلكؤ لحسن حظي. لم أكن لأجد ما أعلق به بدون التروي. قلت مودعا “بيننا موعد قريب نحدده بعد لقاء مقرر مع رفيقة حياتك وقد صارت شريكتك في مشروع عمل. شتان يا صديقي بين الاثنين. يهمني الحب وما فعلتما به. يبدو لي آسفا أن اهتمامكما انصب على مصيركما وتجاهلتما مصيره، لا أعاتب فالحكاية لم تكتمل عندي فصولها. أجازف على كل حال وأهمس مترددا، لعلك يا بني ظلمت الحب. يخفف عني أنك لم تنقلب عليه وأملي كبير في أن أجد عندها ما يجدد ثقتي فيكما.. وفيه”.

ينشر بالتزامن مع موقع بوابةا لشروق

Exit mobile version