الاستقلال في أعقاب حروب التحرر الوطني تلاه الاستبداد في البلدان التي استقلت، أمر يحتاج الى تفسير. التفسير يؤدي الى الفهم.
ليس الاستقلال جنة على الأرض. رحلت جيوش الاستعمار، لكن الدولة العميقة بقيت. أجهزة المخابرات والبيروقراطية، على ضرورتها، بقيت وفي غالب الأحيان توسعت. وهذه تخدم سادتها الجدد كما خدمت سادتها القدماء. تلقفها العسكر بطبيعة الحال. العسكر بعد الاستقلال هم الذين قادوا حركات التحرر الوطني، واعتبروا أن الحكم من حقهم بسبب “بطولاتهم” ضد الاستعمار. يحكم العسكر بالأمر لا بالسياسة. يفرضون الانغلاق على المجتمع. لا يناسبهم المجتمع المفتوح. لا يستطيعون التعايش مع الديمقراطية. ربما أدّت هذه الى تغيير من هم في السلطة. يريدون البقاء في السلطة الى الأبد.
الانقلابات التي جاءت لتزيح أبطال الاستقلال لم تكن أقل تسلطاً. جاء قادتها على حصان أبيض لتحرير الشعوب من واقعها، واقع الجهل والمرض والفقر. معظمهم رفع لواء الاشتراكية. هذه كانت بالنسبة لهم تعني هندسة المجتمع ليتخلّص ممّا هو فيه؛ ليتخلّص من نفسه. اعتبروا أنهم يخلقون مجتمعاً جديداً لا يخضع كما فعل أسلافهم للاستعمار. هم سبب وجود مجتمع جديد. لم يميزوا بين القضاء على المجتمع وبين القضاء على بعض مشاكل المجتمع. تعني التوتاليتارية أن لا لزوم للمجتمع إلا كما يجب أن يكون. الضرورة التاريخية، بالنسبة لهم، تقضي أن يكون المجتمع حسب ما يتصورون، أي حسب ما يريدون. فرض إرادتهم على المجتمع يساوي وجوده. لا معنى للناس إذا لم يخضعوا لهم. الخضوع فعل خير وانسجام مع سيرورة التاريخ. هم يرسمون معالم التاريخ ويقررون شكل المجتمع ووجوده. هم يقررون بقاء المجتمع أو عدمه. الفرق ليس كبيراً بين أبطال الاستقلال والذين جاؤوا بعدهم. نظرتهم جميعهم الى المجتمع واحدة.
الاشتراكيات التي جاءت بعد الاستقلال ملغومة من أساسها (سموها أحياناً تنمية)؛ هي بالأحرى السيطرة على المجتمع من أجل تغييره. هذه كانت الحجة. الهدف كان، في الحقيقة، السيطرة على المجتمع وكتم أنفاسه. تغييره أو عدم تغييره لا يهم. هو يلاقي ما يستحق. في كثير من الأحيان يزداد الناس فقراً، وتزداد الدولة ديوناً، ولا يحرز الناس إلا الفقر مع أن السلطة تعدهم بغد أفضل. وما عليهم إلا التضحية بالحاضر من أجل المستقبل.
حروب التحرر الوطني أنتجت أبطالاً للتحرير، ومن بعدهم ضباط انقلابات حكموا جميعهم بالدم والنار، وذلك عن طريق أجهزة المخابرات. عليهم أن يراقبوا كل شيء في المجتمع بحجة المؤامرات التي يواجهونها بسبب اتجاهاتهم المعادية للاستعمار. وهم في نفس الوقت يريدون معرفة كل شيء عن المجتمع لإحصائه، وتخطيط مستقبله، وتغييره، وخلقه من جديد. “الهندسة الاجتماعية” بند أساسي على جدول النظام.
المشكلة الأساسية في الأنظمة ليست أن الناس لا يعرفون حريتهم، ولا يعرفون حاجاتهم، وليسوا مضطرين للخضوع لمن يعرف حاجاتهم أكثر من أنفسهم. الناس أذكى وأعرف مما يظنون، والمشكلة لدى أنظمة ما بعد التحرير والأنظمة التي تلتها أنها تعرف أن الناس يعرفون ويريدون ولديهم نفوس أبية تعرف ما تريد. لكن هذا بالضبط ما لا يريده الحكام. في مجتمع مغلق يستطيعون التحكم بالناس. ويجعلون من حكمهم ضرورة تاريخية. في مجتمع مفتوح يضطرون الى النقاش، ويفشلون في الحوار، ويتهمشون في الحجاج مع الناس. هم أدنى معرفة من الناس. معظمهم على قدر كبير من الجهل وقدر قليل من الثقافة. حيث حكم مثقفون بعد التحرير لم يكن هناك خوف من الناس أو من المجتمع المفتوح.
في مرحلة النضال من أجل التحرّر الوطني كان ضرورياً تعبئة المجتمع ثقافياً واقتصادياً من أجل مستلزمات النضال. التعبئة استمرت بعد الاستقلال. التعبئة تنتج رهاباً ضد كل ما هو أجنبي. الرهاب ينتج انغلاق المجتمع، وإلغاء السياسة، ودوران السلطة والناس حول أنفسهم. يزداد الفقر. ويكون ذلك نتيجة الحصار الموهوم. قيام دولة إسرائيل كان الدافع لإنشاء أعتى الديكتاتوريات حولها. الهزيمة تنتج رهاباً وروحاً ثأرية، ليس ضد الأجنبي وحسب، بل ضد الجار خاصة إذا كان من طائفة أخرى، وخاصة إذا كانت الطائفة الأخرى تحكم. لا يُدان الحاكم وحسب بل تُدان الإثنية أو الطائفة التي ينتمي إليها؛ والأرجح أن أحوال الخاصة فيها لا تختلف عن العامة في الجماعات والطوائف الأخرى.
تنفق الأنظمة العسكرية من الرصيد الاجتماعي والاقتصادي. الرصيد الاجتماعي تعددية، وروح وطنية، وتعاون بين الناس، وانتماء الى الأمة، ووثوق بالدولة، وخضوع للسلطة (موروث منذ أيام الامبراطوريات)، وتوق للحرية ممنوع لأسباب الحصار المعروفة. يتوجّس الناس من الأجنبي ويتوجسون من أنفسهم. لا بدّ أن يخطئوا في مكان ما أو في لحظة ما. الحقيقة أنهم يدفعون الثمن سجناً وتعذيباً وفقدان موارد العيش.
الرصيد الاقتصادي بحبوحة أو شبه بحبوحة ورثها المجتمع من عهد الامبريالية. الامبريالية لم تكن تنهب وحسب، بل تدفع الى الإنتاج لكي يزداد نهبها. لا تستطيع نهب إنتاج يتلاشى. حرب عالمية باردة. يستطيع هذا الطاغية أو ذاك أن يستدين من هذا المعسكر أو ذاك. في زمن الانقلابات التي أعقبت أبطال الاستقلال، انتشرت عالمياً منذ السبعينات الرساميل الجاهزة كي تستدينها دول العالم الثالث (تراكم الدين العام). ازداد فقر الناس لأنّ أنظمة الطغيان مضطرة لدفع الديون وخدمتها. عليها إذن أن تواجه الجماهير. ترضيها بالدين ولو الى حين. لكن رصيد الدين ينفذ مهما تحالف أربابه مع السلطة. يضطر أصحاب الدين الى النهوض ضد السلطة. يتلاعب الطغاة بالدين. مصر، وسوريا، والجزائر، أمثلة فاقعة، والأمر ينطبق على النظمة الأخرى.
تزحف النيوليبرالية بالتزامن مع التلاعب بالدين. تزداد الفوارق الطبقية. قلة من السماسرة والتجار يستفيدون من الانفتاح الاقتصادي الموعود باسم الليبرالية الجديدة. يزداد الفقراء فقراً، وهم عامة الناس. ويزداد الأغنياء ثروة وهم قلة من الناس. ومعظمهم في السلطة أو حول الطاغية. النيوليبرالية، والطغيان، والتراتبية الطبقية، والنزاعات الطائفية والإثنية، جميعها في مرجل يغلي. النيوليبرالية تجلب معها مظاهر البحبوحة وحقائق الدين العام. على النظام أن يفي ديونه. لا يستطيع ذلك إلا بالاقتطاع من جيوب الفقراء. الأغنياء لا يدفعون لأن أموالهم في الخارج. وأعمالهم في الداخل يتولى أمرها محامون يجعلونها تخسر أو تربح قليلاً كيلا يدفعوا الضرائب. الدين العام عبء سداده على الفقراء، والمصارف الدولية تطالب، وتعد الأغنياء بمزيد من الاستثمارات. والنظام لا يتفرّج. يريد شيئاً منها، وإن كان عن طريق أقارب ووسطاء وشركاء مموّهين.
هي رحلة من الاستقلال الى الدين العام. حروب التحرر الوطني أنتجت أبطالاً ثم انقلابات عسكرية، وديوناً، وأجهزة مخابرات، وأحزاباً تعمل عند الأجهزة. نموذج نرى تجلياته في مختلف أنحاء العالم الثالث. خصوصية منطقتنا العربية هي النفط المذهبي وإسرائيل. أنظمة لا بدّ منها لرد البلاء عن بلدان النفط العربي. إن حفاظ المنظومة الحاكمة العربية على البقاء يتطلّب الحفاظ على كل جزء منها. الحلف الذي نشأ بين البلدان “التقدمية” والبلدان “الرجعية” النفطية كان أمراً مثيراً. كان يقتضي أن تدعم البلدان النفطية “الرجعية” البلدان “التقدمية” رغم اختلاف الايديولوجيا. مسألة الجميع هي البقاء في السلطة وحسب، وعلى حساب كل شيء بما في ذلك شعوبها.
انفصلت هذه الأنظمة مع أجهزتها عن شعوبها. النيوليبرالية درّت عليها الكثير من المال (المسلوب بأساليب قانونية وغير قانونية من شعوبها الفقيرة). كلما ازداد الشعب فقراً كلما احتاج الى النظام. الإفقار وسيلة لضمّ الناس تحت راية النظام. فقر مبرمج. الجهل أيضاً مبرمج. نظام تعليمي ينتج تقنيين جيدين وعلوماً إنسانية ضئيلة. انتشر نوع من دين جديد لم نقرأ عنه في كتب التاريخ أو عند الفقهاء القدماء. كره الناس للسلطة وحقدهم على طبقتها انصبّ على الغير مهما كان. الغير الآخر والمختلف أصبح العدو. إسقاط المختلف هو بمثابة إسقاط النظام. مدارس دينية وزوايا رعاها النظام صارت بؤراً لتخريج التزمّت والتطرّف. وكلاهما على مستوى عال من الجهل، كالجهل المنتشر في فروع أخرى من المعرفة. ولاء كامل للسلطة عند أتباعها؛ كره مطلق للسلطة عند ضحاياها. حيث رجال السلطة من طائفة أخرى، تصير غالبية هذه الطائفة، رغم ابتعادها عن السلطة وفقرها، موضع كره وحقد؛ لم يكن الطاغية ذا مذهب مختلف بقدر ما كان طاغية مسكوناً بنفسه، محتقراً لشعبه، معتبراً نفسه الخالق لهذا الشعب وسبب وجوده. تتكوّن طائفة حول الطاغية حتى ولو كان الناس جميعهم من مذهب واحد. طائفة السلطة لا تحتاج الى دين، لكنها تتلاعب بالدين.
أبطال الاستقلال تلاهم أبطال ما بعد الاستقلال. أبطال الاستقلال وعدوا بالاستقلال، وحققوا، وعاشوا لفترة على أمجادهم. أبطال ما بعد الاستقلال أكثر شطارة وقدرة على الاحتيال. اكتسبوا حيثيتهم وسبب وجودهم من قضايا أخرى.
(يتبع)
تنشر بالتنسيق مع مدونة الفضل شلق