طلال سلمان

الاستبداد في أعقاب حروب التحرر الوطني ٢

يختصر طغاة ما بعد الاستقلال الدولة في أنفسهم. الولاء لهم هو الولاء للوطن. يغيب معنى الدولة. يستبدلون الدولة بمقولة الوطن. الوطن مقولة ميتافيزيقية تتجسّد في ذواتهم. حاشيتهم امتداد لهم. الوطن امتداد لهم. الدولة شيء آخر، هي الناس بعجرهم وبجرهم. هي الناس الأحرار الذين تنغرس الدولة في ضمائرهم. ضمائر الناس هي التي تقرّر الدولة. لا تفعل ذلك إلا بالحوار والنقاش. لدى الطغاة تكون التنمية أو الاشتراكية بالأوامر (أو ما يُسمى الخطط الخمسية). حتى البولشفية تخثرت عندما صارت حكماً بالأمر على يد ستالين. تجربة شرق أسيا (نمور أسيا) في التنمية قامت على الحوار والتعاون بين الفاعليات الاجتماعية. السلطة فيها واحدة من هذه الفاعليات. الدولة مجموع هذه الفاعليات بما في ذلك العاملون لديها وفي المزارع والمصانع والخدمات. عندما تتحوّل الدولة الى طرف واحد فاعل أو غير فاعل تكون مجرّد سلطة تتحكّم بالفاعليات الأخرى. وتسيّرها وتدّعي تنميتها.

المرض العضال في أنظمة ما بعد الاستقلال هو تحكّم السلطة باسم الشعب؛ الشعب الذي ولد بعد الاستقلال لأنها هي خلقته. الدولة تعني المشاركة. مشاركة الجميع. تغييب المشاركة يؤدي الى غياب معنى الدولة. هذا الغياب هو الاستبداد بعينه.

العيب ليس في الاستقلال. هو حق وواجب. لم يستقلّ البلد ليصبح حقل تجارب عند الطاغية وحاشيته، بل استقلّ كي يمارس الناس حريتهم في العمل والتفكير والعيش مع الآخرين في إطار دولة لا سيادة لغيرها. ولا قرار إلا لما يأخذونه هم. ولا سياسة للدولة إلا كما يرسمونه هم وتتولاه الدولة. من دون هذه الأمور لا تصير السلطة دولة. تصير نظام استبداد.

ما حصل بعد الاستقلال هو أن الطاغية أغدق الوعود وأصدر الخطط الخمسية، إلا أنه سرعان ما اضطر، هو ومن خلفه، الى الدين العام. أدّى التراكم في الدين العام الى تنفيذ وصفة النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمات التجارة الدولية ( وهؤلاء يشكلون قمة الهرم الاقتصادي). كل دولة تريد الاستثمارات تلجأ الى هؤلاء. كل دولة لا تستطيع دفع خدمة الدين تلجأ الى هؤلاء. المهم هو أن الخطط الخمسية للدول الثورية بنيت على افتراض تدفق الاستثمارات الخارجية (أشبه بالديون) أو على حسابات أخرى متنوعة وخاطئة، من دون أن تعتمد شيئاً واحداً ضرورياً وهو العمل أو الجهد الذي يُبذل في الداخل، والذي لم ولن يُبذل من دون تعاون بين الأطراف الفاعلة في المجتمع سواء كانت السياسة يمينية أو يسارية، رجعية أو تقدمية. السؤال الممنوع الجواب عليه هو أين الشعب؟ لم الخطط إذا لم تكن للشعب؟ لماذا الخطط إذا لم يقررها الشعب وينفذها؟ الشعب المغيّب في السياسة، والمغيّب في العمل. لم يكن استجلاب الخبراء الأجانب للتعويض عن نقص بل للحلول مكان الشعب. لم يكن تدفق الاستثمارات لسد نقص في برنامج اعماري اقتصادي كبير، بل كان بديلاً عن الشعب. أما إفقار الناس عن طريق سياسات تميل الى هذا القطاع على حسب أخرى فهذا أمر عادي. لم تكن التنمية عملية متناسقة تسير فيها جميع القطاعات الى الأمام. بل كان كل شيء على حساب الزراعة التي عاش معظم الناس عليها في البداية. لم يهاجر سكان الريف الى المدن لولا الإفقار المتعمّد في الريف. الريفيون بنظر الخبراء الآتين من المدن أو من الخارج يتمتعون بدرجة عالية من الجهل والبلادة. هم كبشر يحتاجون الى تنمية. ليست التنمية من أجلهم. بل هم والتنمية من أجل ايديولوجيا الحاكم ورغباته.

عندما توضع الخطة الاقتصادية من قبل حاشية من العسكر والمنتفعين تكون النتيجة كارثية. وعندما تنتهي الخطة الخمسية من دون نتائج طيبة، يزداد غضب الحاكم. يعتبر أنه قدّم للشعب شيئاً وهم لم يقابلوه بالمثل. شعب كسول. يستنتج ذلك. لا يعي أن الشعب سيبقى كسولاً ما لم يشارك كفاعل حر. وسيبقى جاهلاً إذا لم يشارك كفاعل حر. وسيبقى متقاعساً لا يعمل ما دام لم يُستشر ولم يُطلب رأيه. كل ذلك يعيدنا الى ضرورة المجتمع المفتوح والى النقاش والحوار في جميع خطوات التخطيط. لن تكفي كارزمية بطل التحرير أو من خلفه لتعبئة الجماهير يومياً وعلى مدى السنين كي يتحرّك الناس. بالطبع سيُصابون بالبلادة عندما يرون بأم العين أن حصتهم الفقر، بعكس الحاكم وحاشيته، وأنهم على هامش القرار على الرغم من كونهم أكثرية.

يخرج الناس من سوق العمل. ربما تدفقت الاستثمارات التي يستحيل وضعها في إنتاج حقيقي إذا كان الناس بلداء لا يعملون. تستخدم الاستثمارات أكثر ما تُستخدم في الخدمات وفي استيراد مواد اللوكس من أجل أهل البلاط والحاشية. وإذا تجرّأ واحد من العامة على الاستثمار في عمل إنتاجي، فإنه مضطر للدفع من أجل الترخيص (رشوة) كما هو مضطر لإعطاء بعض أهل الحاشية حصة من أسهمه أو إنتاجه. طبقة سياسية تعيش على الاقتطاع والنهب مما لم تنتجه؛ الاقتطاع والنهب من المنتجين الحقيقيين. القوة العسكرية-السياسية المجردة هي التي تستولي على مقدّرات البلاد الاقتصادية. إذا تدفّقت الاستثمارات توزّع على الأرجح لأصحاب النفوذ. ليبرالية جديدة يشارك فيها الأعلون، ويعمل لديهم العامة بأجور متدنية، لا تكاد تكفي سد الرمق.

يكثر المال في أيدي الطبقة السياسية. يزداد معها الاقتصاد بالأمر. هذا ليس اقتصاداً موجهاً أو مخططاً يشارك فيه الجميع؛ هذا اقتصاد بالأمر توجهه السلطة من أجل الربح والنهب لصالح أعضاء الحاشية ومن حولهم. حتى لو بقي الطاغية نظيف الكف فإنه يعتمد في ثروته على المقربين من الحاشية.

بالطبع سيكفر بالنظام أبناء العامة، وسيترحمون على أيام ما قبل الاستقلال. في بلدان كثيرة ليس هناك طريق معبّدة أو سكة حديد أو مصنع أو مزرعة الا وكان الاستعمار بانيها. عهد الاستقلال جاء بأبطال ذوي مهمات مصيرية كبرى. ولا تهمهم هذه الأمور اليومية. فعلياً هم مشغولون بأمر السلطة والبقاء فيها رغم كل النتائج. يصير العمل من أجل خدمات البنى التحتية، على الأقل، عمل الشركات الأجنبية وخبرائها. مهندسونا وتقنيونا عملهم هو مساعدة هؤلاء الخبراء الذين “يعرفون أكثر منهم” بطبيعة الحال. تولد الدونية عند المحليين. تمتد الدونية الى المثقفين. تثبّت مقولة الجهل. ما دام المرء جاهلاً، أو مكتوبا له الجهل، أو مصنوعا له الجهل، فليهتمّ بأمور الدين علّه يعرف شيئاً، أو علّ الدين يكون ملاذه، أو يرفع الدين من شأنه. يصير الدين مرارة عند أصحاب شهادات التكنولوجيا. لا لزوم لهم على هذه الأرض فليجدوا مكاناً في السماء. وليسرعوا نحو هذا المكان. الوطن لا يعود مكاناً للعيش بل منطلقاً الى مكان آخر: الى الغرب كهجرة أو الى السماء عن طريق الموت. وأقصر طريق للموت هو الانتحار. الأساس في التكفيريين هو صيرورتهم الى كيانات بشرية لا تلزم. هؤلاء لم يصنعوا واقعهم. هم نتيجة واقع البؤس الروحي والمادي. التديّن الحالي ليس ممارسة عابقة بالروح؛ هو غياب الروح وفقدانها.

جاءنا الاستقلال وحل مكان “المسيو” و”المستر” أبناء الذوات المحليين. هؤلاء يمتلكون الشعب، وأولئك غرباء. رهاب الغرباء موجود. تغذيه الحملات ضد الغزو الثقافي. يراد للشعب أن يبقى على حاله مرتعاً للنهب والسرقة. يُراد للشعب أن يبقى جاهلاً. ولا بأس بأن يكون متديّناً. ينتشر الدين كمعارض للسلطة. ينفجر الوضع أحياناً ويتحوّل الى حرب طائفية بين العوام من هنا وهناك. أحياناً لا يلزم الدين كي تتكوّن الطائفة. حاشية الطاغية هي الطائفة الحقيقية.

تعلو الأصوات التي تدين التدخل الأجنبي، خاصة صندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. هم يريدون إعادة الهيكلة الاقتصادية. وهذا اعتداء على السيادة. لكن عندما تتعرّض السلطة للخطر فإنها تستجلب الجيوش الأجنبية، وتجعل وجودها شرعياً. ما لم يحلّ بالسياسة مع الناس وبالتعاون بين الفعاليات الاقتصادية والسياسية، يُحلّ باستيراد الجيوش الأجنبية. لا يدري المرء أيهما أخف وطأة وأقل اعتداء على السيادة. هل هو البنك الدولي والصندوق والمنظمة أم الجيوش الأجنبية؟ تفعل الجيوش الأجنبية والقواعد الأجنبية ما لم يستطع البنك والصندوق والمنظمة فعله. كلاهما حكم خارجي. كلاهما إدارة بالأمر. لكن الجيوش الأجنبية أمر مدعوم بالقوة العسكرية. عسكر أجانب مكان عسكر محليين. هؤلاء لا يتحولون الى مساعدين للخبراء العسكريين الأجانب وجيوشهم وقواعدهم….

(يتبع)

تنشر بالتنسيق مع مدونة الفضل شلق

 

Exit mobile version