طلال سلمان

الاستبداد ـ الدين عبء على المجتمع (٢٧)

لا مجتمع من دون دين. يتغيّر معنى الدين ومحتواه حسب الظروف. للضرورات المختلفة أحكام وقواعد مختلفة. كل مرحلة تفرض ضروراتها. لولا التغيّرات لما وجد رجال الدين ضرورة لإعادة تفسير الكتاب المقدس لمرات عديدة في المراحل المتتالية. الاعتراف بالتغيير والتحوّل هو اعتراف بالإسلام. إنكار التحوّل هو إنكار للإسلام. تغيّر معنى الكلمات والمصطلحات عبر العصور. تغيّر موضوع الدين عبر العصور. خدم أنظمة فكرية وسياسية مختلفة. هو الآن يخدم سادة النفط من أي نوع كانوا. لو لم يكن كذلك لكانوا رضوا بأن يكون النفط (بما فيه الغاز) ركازاً بمعنى أنه ملك الأمة والمجتمع، وليس ملكاً لأفراد السلطة الحاكمة؛ ولو لم يكن الأمر كذلك لما اعترفوا بالآيات المتشابهة، وهي معظم النص. وكما قالوا أن النص هو الشريعة والشريعة هي القانون والقانون هو ما ورثناه من السلف. لولا ذلك لاعترفوا بقدسية الكتاب، ولاعترفوا ان في الدين الأول زوائد كثيرة تولاها بشر عاديون. ويمكننا الآن أن نُحْدِث نواقص عديدة على أيدي بشر عاديين.

الدين ملك للسلطة قبل كل شيء. السلطة قائمة على التراتب وعلى بعضهم يظلم ويضطهد بعضهم الآخر، ويأخذ قسماً مما ينتجه معتبراً ذلك فائضاً على حاجاته، وأن حاجات المنتج لا تتجاوز ما يبقيه على قيد الحياة وما هو ضروري من أجل إعادة إنتاج المنتجين.

السلطة تثبت معنى النص حيث تريد. السلطة الدينية الآن وهابية سلفية. وجهة نظرها هي ما يحكم بالمال “علماء” الدين. هؤلاء يعتبرون أنفسهم ورثة الأنبياء. وهذا افتراء على الدين. الدين ليس بحاجة الى أوصياء. الدين بحاجة الى مؤمنين أفراد. وهؤلاء علاقتهم بالخالق تغنيهم عن كل ما في الدين إلا الكتاب المقدس. وهذا الكتاب ذو أوجه، وهو حمال معان مختلفة تتغيّر هي وأحكامها بتغيّر الظروف التاريخية.

السلطة في بداية الدين تبنت النص. ربما منعت أو أضافت بعض ما لا يروق. نتحدث عن القراءات السبع والأحرف العشر. ولا نعرف معناه. هل يجوز ذلك؟ الصراع الراهن بين المذاهب (خاصة السنة والشيعة) هو على امتلاك النص. هو صراع على الدين وصراع من أجل السلطة على الدين، وعن طريق ذلك تأكيد سيطرة السلطة السياسية على الناس.

نصرف الكثير من الوقت، وأمضينا قسماً من تاريخنا، في دراسة وتمحيص الأحاديث. حتى ما رواه التابعون وتابعو التابعين. عملياً أضفنا الى الدين ما أردناه، أو ما أريد لنا إضافته. والآن تريد السلطة، التي تعتبر نفسها كذلك، تجميد الحديث كما ورد بالرغم من عدم الثقة بصحة معظمه. ربما كان بعضه مفيداً للسلطة. تثبيت ذلك يجمّد التاريخ. الدعوة الى حياة “السلف الصالح” هي دعوة لتجميد التاريخ. هو يتطوّر فعلاً. يريدون إنكار ذلك مع أفكار جامدة. هذا مستحيل. هذا المستحيل هو بعض ما أحال الأمة الى رميم الحرب الأهلية. الصراع على النص وتوابعه. الصراع الحقيقي هو في مكان آخر. هو ضد السلطة الحاكمة. من المفيد إنكار النصوص التي تستند إليها كي تستمر مسيرة الثورة والحرية.

العلم الموروث لا يفيد شيئاً. لا في الاقتصاد ولا في الاجتماع أو الحرب، الخ.. يفيد السلطة وحسب. من الضرورة إهماله والاكتفاء بالدراسات الأكاديمية حوله. لا يمكن دراسة ما يسمّى التراث من دون الوقوف خارجه. الدراسة تتطلّب تجرّداً وموضوعية وكفاءة ونزاهة. علماء الدين لا يعرفون أيّا من هذه الأشياء. هم يدافعون عن وجهة نظر وحسب. الذي قال “القرآن حمال أوجه” عرف ذلك وقال ذلك في خضمّ حرب أهلية عندما رفع خصومه المصاحف على رؤوس الأسنّة في وجهه، وقالوا نحتكم الى النصّ.

السلطة هنا، كما في جميع أنحاء العالم، تصادر ثروة الناس. تستأثر بالمال. تبرر ذلك بالدين. تستخدم الدين في التبرير وفي الظلم والقهر. جعل “أولياء” الأنبياء أنفسهم مطيّة للسلطة. جعلوا الدين عبءا على أتباعه. لم يعد الدين والأخلاق في مجال واحد. يبرر أحدهما الآخر ويساهم في تأكيده. صار الدين مطية لحكام ليس لديهم ذرة من الأخلاق. إذا كان الدين فطرة، كما يقولون، لوجب التغيير. تطوير الدين ليصير في نصرة الضعفاء لا الأقوياء. الدين الحالي، وهو دين جديد، غير ما تعوّد عليه أجدادنا وأسلافنا القريبون والبعيدون. هو دين السلطة التي يجدر التخلص منها ومن مبرراتها الايديولوجية. لم يعد الدين وسيلة للاتصال بالله. صار تبريراً ايديولوجيا للوصول الى السلطة. المتطرفون الدينيون من أمثال القاعدة والنصرة وداعش لم يوجدوا إلا من أجل وبواسطة السلطات الحالية، ولخدمة هذه السلطات. ليس التناقض بين السلطة والتطرّف الديني؛ هو بين الناس وفقرائهم وضعفائهم ضد السلطة وأجهزة التبرير الدينية وأجهزة القمع العسكرية من جهة أخرى. ويقول أهل الاعتدال الديني أنه يمكن التبرير للسلطة بوسائل معتدلة لا متطرفة. كلهم سيان. الاعتدال في الدين أكثر نفاقا من التطرف. هو أيضاً تبرير ايديولوجي للسلطة. تبرير مزيّن بالمواد اللزجة.

جميعهم يستخدمون الدين للدخول في العصر. يدعون أن الدين هو الحل. لا يحلّ الدين شيئاً من مشاكلنا المعاصرة. الأسوأ هو أنه يقودنا الى الجحيم على هذه الأرض قبل السماء. اسرائيل لم تعد على الأبواب. هي تعشعش في قلوب ومنازل وبلاد الذين يبرّرون سلطتهم بالدين. هل أدلّ من وجود اسرائيل على الهزيمة؟ هزيمة أمام اسرائيل، وهزيمة في مواجهة العالم المعاصر.

لن يدخل العرب في العصر. لن ينخرطوا بكفاءة في هذا العالم من دون إزالة الأثقال عن كواهلهم. هم مثقلون بدين لا يفهمونه ولا يريدون ذلك. هم مثقلون بدين يراد لهم أن يبقى عبءا عليهم. ربما لا يستطيع مجتمع، أي مجتمع في العالم، إلغاء الدين، لكنه يستطيع إلغاء ثقل الدين عن كاهله وتحديد تدخل الدين في كل شاردة وواردة، واعتبار الدين المدخل الرئيسي لقضايا العصر، للمشاكل التي تواجه مجتمعنا. لكن المجتمع يستطيع أن يخفف وطأة الدين بأن يقلص مجاله، ويوسع مجال الرأي والاستقراء وابتداع قواعد وقوانين أخرى تنبع من المصلحة والعقل وليس من الدين. وهذا يعني نسف الكثير من المسلّمات الدينية الراهنة التي تقحم نفسها، وهي ليست من الدين. بل صارت دينا بفعل التعصّب واستخدام التديّن كي يكون مطيّة لأشياء أخرى تريدها السلطة المدينية، وحتى الدينية. من يقول أن ورثة الأنبياء يتعاطون في شؤون الدين فقط؟ هم يتعاطون في شؤون دنيوية غير دينية على أنها دينية. لا يخضع كل ما يفعله الإنسان لاعتبارات الحلال والحرام. هناك المباح والمكروه والمستحب. هذه يجب توحيدها في المجال العام واعتبارها من الشؤون التي يجب أن لا يتعاطى ورثة الأنبياء فيها. هذا مع العلم أن مساحة الحلال والحرام صغيرة جداً في رحابة الحياة الإنسانية، وفي رحابة مجال المكروه والمستحب والمباح.

تتغيّر وظيفة الدين بتغيّر النتائج المرجوة منه. يتغيّر المجتمع وتتغيّر النتائج المرتقبة، الى الأفضل أو الى الأسوأ. وبالامكان تدخّل الناس في هذا التغيّر وأن لا يبقى الأمر متروكا للسلطات الحاكمة. ليس الدين أمراً مجرداً. وليس معطى أزلياً في صيغة واحدة. الصيغ المتبدلة يجب أن تكون ملكا أو على الأقل موضوع صراع مع السلطة، في المجتمعات التي تدّعي أنها دينية، بمعنى تطبيق الشريعة. أحدثت البورجوازية تغيّراً أكثر مما فعل الدين. في كل المجتمعات فرض المجتمع نفسه على الدين. في بلادنا تسعى السلطات أن لا يحدث ذلك. هي تعرف أن التغيير سيحدث مهما كان الأمر. الموضوع إذن هو الحرية. حرية المجتمع في القبض على مصيره. حرية الأفراد في أن يختاروا السلوك والمعتقد من دون تدخّل السلطة. ما يقرره ورثة الأنبياء هو الدين. ويحاولون النفاذ عبره الى المجتمع. يجب على كل الدين أن يحرر نفسه؛ أن يخرج من قفص أرادته له السلطة ووافق على ذلك؛ أن يخرج من الماضي؛ أن يحطم السلفية؛ أن يعتبر أن المجتمع يتجاوز نفسه؛ أن يغيّر صيغ مضمونه وتعبيره. ليس الدين معطى بل هو يُصنع في كل مرحلة لتأدية وظيفة معينة. الآن هو في قبضة السلطات الحاكمة، رأس المال والزعران. ليسوا ورثة الأنبياء من يرهنون أنفسهم للسلطات القمعية.

الدين لم يقدّم للأخلاق شيئاً. ليس هو حارسها. كان نقيضها في معظم الأحيان. أصبح عبءا على الأخلاق ونقيضاً لها، وأساسا من أسس الفساد في المجتمعات العربية. هو مبرر للسلطة ليس فقط في أعمالها المتعلقة بالقمع والنهب، بل هو مبرر أيضاً للمجتمع كي يخرج الناس على القواعد القانونية لحماية أنفسهم وتدبير أنفسهم في نظام عشوائي.

إن لم يكن ممكنا احتواء الدين فسيكون انتشاره وبالاً عليه. دين يخدم السلطة مهما كان حكامها طغاة وأنذالاً. لا يمكن احتواء الدين من دون حصره في المجال الخاص (الإيمان)، ومنعه من المجال العام (السياسة) منعاً باتاً.

يضمر عقل المسلمين كلما كانوا متدينين، والعكس صحيح. يزداد عقلهم وعقلانيتهم كلما توسع مجال السياسة وضاق مجال الدين. لم تكن المسلمات أقل تديّناً عندما كنّ لا يضعنّ الحجاب. بل كنّ أكثر عقلاً، وكنّ يشاركنّ الرجال في السياسة. اليس الحجاب والنقاب إبعادا لهن من السياسة، واكتفاء بإعلان الشعار للتدليل سلفاً على موقف لا ضرورة لإعلانه.

ما زلنا غائبين عن العلم الحقيقي (الحديث) المدعوم بالتجربة والفلسفة، بالمختبرات والعقل الذي يتأمل. يضمر العقل العلمي العقلاني ويتوسع العقل الديني الاستهلاكي. أوّلهما مبني على ما ينجزه الإنسان فكريا وعملياً، والثاني مبني على ما لا ينجزه الإنسان إلا في ثنائية الحلال والحرام واعتبار المقدس. أولهما يحفز الإنسان على أن يعمل وينتج، وثانيهما يحفز الإنسان على أن لا يعمل وان يستهلك. يستهلك ما لا ينتج. بل ما ينتجه الغير. إغلاق العقل العربي، انعزال الوعي، حاجة دائمة لمستشارين واستشاريين خبراء أجانب لتنظيم أمورنا ومشاكلنا. حكمنا على أنفسنا بالدونية والعتصرية والماضوية. ارتضينا لأنفسنا “عبودية” الغزو الفكري. قيل الكثير في مؤتمر المنامة الذي باعنا وقضية فلسطين في سوق النخاسة. ترف العيش في بعض مجتمعاتنا، وما يسمّى العمران في هذه البلدان هما نتيجة لعلوم الغير وتفكير الغير، في حين يتقاعس العقل العربي ويتقاعد ويمارس مهنة العجز. ليس في الأمر مؤامرة. بل هي بنية اجتماعية أساسها العلاقة بالدين؛ دين تفوح منه رائحة النفط والتخلّف. لم يجبرنا أحد على ذلك. فطرنا أنفسنا على الدونية التقنية والعلمية، والدونية الإنتاجية، والبذاءة الاستهلاكية.

مجتمعات يحكمها الاستبداد (العسكري)، ويملأ المقدس حيّزها العقلي، وتتلهى بثنائيات الحلال والحرام. يكاد المقدس المفتعل يزكم أنوفنا ويسمّم أرواحنا.

لا نعمل لدنيانا كي نعيش أبداً. بل نعمل لمقدساتنا كي نموت غداً. هكذا تنتشر العمليات الانتحارية. مجتمع يحكم على نفسه بالسير في طريق الاندثار. مجتمعاتنا تتظاهر يومياً مطالبةً بالحرية، حرية التفكير، وتطالب بالكرامة، كرامة العيش، والعدالة الاجتماعية، عدالة أن تتعامل معنا السلطات حسب القانون لا بعشوائية الاستبداد. الثورة المضادة تشنّ حروباً على هذه المجتمعات لمنع كل ذلك. سلاحها الأقصى هو الدين. هو سلفية تريد لنا العيش في الماضي.

(تمت)

تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق

Exit mobile version