تكفير الآخرين ليس من الإسلام. أنت متى نطقت بالشهادتين صرت مسلماً. ولا يحق لأحد بأن يتهمك بغير ذلك. إذا كفرت، اي اذا أنكرت الله والنبوة، تُستتاب ثلاث مرات عند القاضي، وإذا لم تفعل يقام الحد عليك. نادراً ما حدث ذلك في التاريخ الإسلامي. التكفير عمل تقوم به السلطة وزبانيتها. تفرز بلطجية متل داعش للقيام بالمجتمع واتهامه بأنه “بيئة حاضنة”. المجتمع الذي يرفض النظام لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية، المجتمع الذي جرى نهبه وأفقاره واذلاله، هذا المجتمع يكون طبيعياً ضد النظام. يدافع النظام عن نفسه بعد أن فقد الشرعية بأن يدّعي أن المجتمع لا يصلح أساساً لإعطاء الشرعية. هو مجتمع جاهل يسوده الفقر والجهل والمرض. مجتمع خلق لكي يكون محكوماً. والسلطة الحاكمة تعرف سبل التقدم وتعرف كيف تخرج المجتمع من الحالة الميؤوس منها. المجتمع بنظر السلطة بحاجة إليها لأنه بحاجة الى التنوير. التنوير يحدث على يد قوى النظام التي تواجه الظلامية. يتظاهر النظام أو يظن أنه صار حداثياً تنويرياً بمجرد أن وصم خصومه بالظلامية. ينزاح الحوار من حول القضايا الأساسية، قضايا الإنسان والاقتصاد والاعتقال والتعذيب وشتى أنواع القمع، الى قضايا تعتبر دينية. يدور الحوار حول عنف الحرب الأهلية وحول شؤون دينية لم تكن يوماً جزءاً من الدين. هو الدين الجديد لدى السلطة وبعض معارضتها. دين جديد يتماشى مع نيوليبرالية السلطة والمهام الموكولة الى خصوم السلطة.
الجماهير العربية ذات الدين الإسلامي كما نعرفها طرحت في ثورة 2011، والآن في ثورة 2019 مطالب سياسية تتعلّق بالحريات والكرامة الاجتماعية ورفض توارث الحكم الى الأبد. ولم تدخل في جدالات دينية تفرضها السلطة. هذه الجماهير لم تستخدم العنف في الجزائر والسودان. كما لم تستخدم العنف من قبل في 2011، في بقية أنحاء الوطن العربي، خاصة في اليمن وسوريا والعراق وليبيا والبحرين. الذين استخدموا العنف هم أصحاب السلطة وهم الذين فرضوا ذلك. جاؤوا بشاحنات السلاح لتسليح المعارضة (الثوار) أو استخدموا البلطجية للإمعان في الإذلال والقمع، أو قاموا بالاعتقال والتعذيب.
السلطة هي التي نظمت الفرق الظلامية وأطلقتها بعد أن دربتها على ايديولوجيا ظلامية. وجاءت بالسلاح ورمته بين صفوف المتظاهرين. وأرادت الحروب الأهلية لتدمير اليمن وسوريا والعراق وليبيا ودول أخرى. هي التي يناسبها أن يوصم الخصم بالظلامية ويُسمّى البيئة الحاضنة. وكأن في ذلك تطهيرا للذات وإبرازا للأنظمة بمظهر الحداثة والتقدم. وذلك جزء من عمل الثورة المضادة. وإذا كان هناك اختلافات بين الأنظمة، فما ذلك إلا لأن الثورة المضادة تعاني من الانقسامات التي تعاني منها قوى الثورة.
وصار اتهام المجتمع بالتكفير وسيلة لضرب السيادة عرض الحائط واستخدام الجيوش الأجنبية لخوض الحرب ضد المجتمع. أي للقيام بما لم تستطع الأنظمة، الفاقدة الشرعية، القيام به. كل ذلك حتى أصبحت المنطقة العربية ساحة لحرب عالمية تخاض لا في كل أنحاء العالم، بل في منطقتنا العربية. لم تستطع الأنظمة الصمود أمام شعوبها فاستقدمت القوى التي يمكن أن تنقذها.
يجدد الثوار في الجزائر والسودان الاعتقاد لدينا بأن الذين قاموا بالانتفاضة وهبّوا انفجاراً كالبركان الذي يثور ويقذف حممه، فعلوا ذلك لأن الأنظمة فشلت في مهماتها الأساسية الاجتماعية والاقتصادية (خاصة الإنتاجية) لحل مشاكل شعوبها وتلبية الحاجات. فشلت في إدارة شعوبها بالسياسة، وزجّ الجماهير في الحوار من أجل تقرير المصير واقتراح السياسات الصائبة. لم تستمع الأنظمة للناس بل اعتبرت المجتمع كمّاً مهملا ، مهمته الرئيسية وربما الوحيدة هي الرضوخ والاستسلام، والقبول بسياسات السلطة عندما كانت تحاكي الاشتراكية وترعى شعوبها. أو القبول بسياسات السلطة عندما تحولت الى النيوليبرالية، وصار نهب الناس وسرقة أموالهم هو الاتجاه الوحيد الذي رضيت به السلطة تحت ضغط الرأسمالية العالمية عن طريق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وايديولوجيا النيوليبرالية التي لم يكن لها إلا هدف واحد هو إفقار غالبية المجتمع.
ثار المجتمع ضد الافقار، فإذا بالسلطات تطرح المعركة وكأنها دينية أو طائفية أو ما يتعلّق بتأخر المجتمع. لا ننكر التأخر. لكنه أيضاً مفتعل. وهو من صنع السلطة، ومن صنع سياساتها التي لم تؤدّ ولن تؤدي الى التقدم والازدهار. ثار الناس ضد فقرهم واحتقارهم. ثار الناس بما تبقى لهم من كرامة. ثار الناس كي يعيدوا اعتبارهم لذاتهم. ثار الناس لأنهم لم يعودوا يتحملون فانفجروا. أرادت سلطات الأنظمة أن يستكين الناس في سبيل الاستقرار. كي ينعم الحكام بسلطتهم. فإذا بهؤلاء ينفجرون. لم يكونوا يفتقدون بعض التنظيم، ولم يكن التنظيم أساسياً لديهم. كان إسقاط الأنظمة هو الأساس. وكان الإنفجار هادفاً لذلك. برنامجهم أهدافهم. هذه معروفة. المحيّر أن أصحاب السلطة كان معظمهم غائبا عن الوعي. أحدهم كان فاقد الأهلية تماماً، الباقون لديهم بعض الأهلية الجسدية، لكنهم فقدوا البصيرة. لا يفهمون شعوبهم ولا يريدون فهمها. الدول الكبرى والإقليمية تشاركهم في تعمّد عدم الفهم ومعاملة المجتمعات وكأنها غير موجودة. وإذا اعتبروها موجودة فإن مهمتها الوحيدة هي الخضوع. لقد صار الخضوع مستحيلاً لأن الحياة لم تعد تطاق.
موضوع الصراع لا يتعلّق بالدين، بل بظلامية اجتماعية مفتعلة على أيدي النظام وحاشيته وداعميه. المسألة تتعلّق بمطالب في سبيل الحياة السويّة. وأن يعيش المجتمع حياة سويّة حيث السياسة يشارك فيها الجميع، وحيث السياسات يناقشها هؤلاء الذين تطالهم هذه السياسات. بدأ الحراك الشعبي هكذا، لكن الأنظمة حرّفته الى نزاع مسلّح، نزاع ديني لم يكن وارداً أصلاً.
اخترعت الثورة المضادة الدين الجديد، دين التكفير. ورفع بعض أصحاب النيات شعار الاعتدال. فكأنهم أقرّوا بما تقوله الأنظمة عن مجتمعهم. يرفع البعض شعار الإصلاح الديني فكأن النبي لم يتمم لهم دينهم في خطبة الوداع. أو كأن موضوع الصراع هو الدين، كما تريد الثورة المضادة. الموضوع هو كما نقول تكراراً. هو المشاكل الاجتماعية والسياسية؛ هو أنظمة تصمّ آذانها عن مطالب الناس.
لا يخلو مجتمع من فئات هامشية. الخطأ، بل الجريمة، في أن نطلق سمات الفئات الهامشية على المجتمع كله. هناك مزاج ديني متصاعد لدى المجتمع. عند البحث نجد أن هذا المزاج ما تصاعد إلا لأن أنظمة الثورة المضادة لم تترك شيئاً آخر للمجتمع. حجب الطغيان قضايا الناس عن الناس، ومنع المجتمع من البحث في قضاياه. وعاقبه على طرح القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ولم يترك للناس إلا هذا المجال. فهل يلام الناس على ذلك؟ وهل يشكّل هذا المزاج الديني قاعدة لداعش والقاعدة وأخواتهما؟ ظلم آخر للمجتمع إذا كان الجواب بالإيجاب على هذه الأسئلة.
عندما امتنع النظام عن معالجة قضايا الناس ووضع نصب عينيه مواجهة هذه الفئات التكفيرية الهامشية، فإنه جعل نفسه هامشياً. هو فعلاً هامشي، على أطراف المجتمع، عندما يستقبل كل هذه الجيوش الجرارة وقواعدها البحرية والبرية على أرضه. تتصرّف الأنظمة العربية، أنظمة الثورة المضادة، وكأنها لا علاقة لها بمجتمعاتها؛ وهي فعلاً لا تريد هذه العلاقة. تريد الحفاظ على السلطة بدعم كامل من القوى الأجنبية من دون حوار حقيقي مع المجتمع، ومن دون حوار من أي نوع مع المجتمع.
همّشت أنظمة الثورة المضادة نفسها تجاه مجتمعها. فصارت تنازع داعش والقاعدة على هامشيتهما. ليس لديها إلا أيقونة ايديولوجية. هي أيقونة التكفير والتكفيريين لتبرر بها نظامها وسلطاتها ووجود الجيوش الأجنبية على أرضها.
ليس في الدين اعتدال أو عدم اعتدال؛ وليس في المجتمع اعتدال أو عدم اعتدال. النظام الذي يضطهد شعبه ويلغي السياسة ويقمع الناس ويخرجهم من مواطنيتهم هو غير المعتدل. وهو ما يدفع المجتمع الى عدم الاعتدال. ظاهرة الحجاب مثلاً أو كثرة زوار المساجد، ظاهرة لم تنتشر في المجتمع إلا بعدما تمكّن الاستبداد منه. المجتمع يريد دولة ترعاه. عندما أمعنت السلطة في الاستبداد صار المجتمع حاضناً لشيء آخر ليس هو النظام. بل حاضناً لغيره، حاضناً لما منعه عنه، حاضناً للأمل في أن يصير النظام دولة يعيش الناس فيها سوية. ليس المجتمع بيئة حاضنة للتطرّف، بل هو حاضنة للعداء حيال نظام داس كرامة الناس وجعل لهم خياراً من إثنين: إما الخضوع والاستسلام، وإما السجن والتعذيب والقتل. ليس المجتمع بيئة التطرّف. النظام هو بيئة التطرّف.
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق