طلال سلمان

الإنسان بوطنه: ذاكرته

يتعامل »العربي« مع ذاكرته كأنها حصن أمان، كلما ضاقت امامه طريق الغد التجأ اليها لتعطيه مددا يحتاج اليه للصمود في مواجهة ما يعترضه من كوارث وهزائم لا يستطيع لها دفعاً، مع انه كان جاهزا للقتال ما وسعه القتال حتى لا تقع، ثم يتلقى نتائجها صاغرا بينما هو قد مُنع من ان يشارك في صنع القرار، وإن ظل عليه ان يدفع ثمن الخطأ.

ويؤخذ على »العربي« أنه يهرب من واقعه الى ذاكرته، فيستعين على بؤس يومه بصفحات وصلت اليه بمضمون مشرق من ماضيه البعيد: تُهزم جيوشه في العام 1967 أمام اسرائيل في فلسطين فيهرب رجوعا الى ما قبل ثمانمئة عام ليتباهى بنصر تاريخي حققه القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي في حطين، على الصليبيين.

يقوده نظام حكم الطاغية الى الكارثة، فيلجأ الى امثلة في التاريخ عن نهايات الطغاة، مستخدما في ذلك الدين، لا فرق بين التوراة والقرآن، ما دام »الشاهد« يفيد في التخفيف من فداحة الخطب، ويهوّن الامر على متلقيه باحالته على الارادة الالهية التي تمهل ولا تهمل، او على غضبة الشعوب والثورة الآتية بلا ريب، حتى لو لف الغموض موعدها العتيد.

لكن الذاكرة قد تتحول الى مصدر للعذاب، اذ تُشعرك المقارنة بين ما تفترض انك كنت عليه في ماضيك وما انت عليه اليوم، بشيء من المهانة، اذ تظهرك عاجزا عن تغيير الغلط في واقعك؛ تكتفي بأن تلعن المتسبب في هزيمتك بدلا من ان تقاومه حتى تخلعه وتستعيد حريتك واحساسك بإنسانيتك.

الذاكرة عبء ثقيل على من يرفض الامر الواقع. لا تنفصل الذاكرة عن الوجدان بل هي مرجعه ومصدر احكامه، تنهرك ان قبلت الغلط الذي كنت ترفضه، وتعاقبك بتعذيبك إن انت أجبنت فامتنعت عن الشهادة بالحق، الذي لا يصير باطلا بتعاقب الايام.

الذاكرة تتجاوز اللحظة. انها محكمة عليا: من صنفته بطلا لا تتبدل صورته فيها لو انقلبت السياسات الى عكسها نتيجة تحولات في موازين القوى.

التاريخ ليس الماضي، انه المستقبل ايضا. ومن أسقط ماضيه بذريعة انه ثقيل الوطأة على كتفيه فلن يستطيع الادعاء انه انما ضحى بأمسه من اجل غده. فمن اغتال ماضيه سقط من كل حساب، وأضحى يهرب بوجهه من عيون ابنائه. سيظلون يحبونه كأب، لكنه سيفقد احترامهم. لن ينكروه، ولكن الإشفاق سيحل محل الاحترام.

تتبدل الظروف، وقد تفرض علينا مفاهيم جديدة مغايرة لما تعودناه، لكن الخيانة لا تنقلب بطولة من اجل الوطن، والانحراف لا يصير طريقا الى الصح.

أعلى درجات هزيمتك ان تمسح ذاكرتك، بزعم انك تريد ان تنتمي الى الغد، وانك لا تستطيع ان تتقدم وانت مثقل بجثة ماضيك.

اليوم ينكر »العربي« ماضيه بذريعة انه انما يحمي مستقبله.

لكن مستقبله ليس من صنعه، بل هو ليس مستقبله، انما هو بعض مصالح غيره في ارضه. ان هذه المصالح تخطف منك اطفالك بذريعة انهم لا بد من ان ينشأوا على غير ما انت عليه ليكونوا رجال الغد، وحتى لا تأخذهم بذكرياتك الى العدم بحجة احترام ماضيك الذي عليك ان تدفنه في مقبرة التاريخ، اذا شئت ان تنتسب الى العصر!

ذاكرة المهزوم مُتعبة، خصوصا اذا كان على يقين من ان الهزيمة فرضت عليه من دون ان يُسمح له بالقتال لمنع وقوعها. لا اعذار للمهزوم.

للمنتصر كل الحقوق في اليوم والغد وفي اعادة كتابة الأمس.

والمنتصر »غريب«، تاريخه هو حطام تاريخك، امس واليوم وغداً.

بماذا يقاتل الفلسطيني الذي يكاد يكون بلا سلاح؟

بأرضه. لكن الارض تاريخ ايضا، ومن خرج منها او تخلى عنها شُطب واندثر، وصيّر نفسه بعض تاريخ عدوه المنتصر عليه.

لقد وظف الاسرائيلي »الذاكرة«، بغض النظر عن خطورة التزوير فيها، من اجل غده في فلسطين وعليها، بينما تمارَس ضغوط هائلة على الفلسطيني من اجل ان يخرج من ذاكرته فيخرج من ارضه ليصير هباء في شتات اللجوء الذي ينزع عنه هويته وانسانيته.

بماذا يقاتل »المصري« كي يكون له غد يليق بتضحياته وبكرامته الانسانية… اذا هو اغتال ذاكرته، وانكر تاريخه، غدت جموع هذا الشعب العظيم طوابير من الفقراء المنسيين التائهين عن هويتهم، يرونها تارة افريقية، او فرعونية قيمتها عند علماء الآثار وليس في صنع المستقبل، او متوسطية يصطنع لهم غدهم من احتلهم بالأمس ويوشك على احتلال غدهم.

كيف يُسقط المصري من ذاكرته ذلك الجندي الفلاح الذي اجتاز حواجز الموت والرعب ليهزم العدو اسطوري القوة وليحقق نصرا بهياً سرعان ما ضيعته سياسة مساومة الاقوى؟!

احترام التاريخ لا يعني ان نعيش في الماضي.. ولكن ان نحس بالثقة بالنفس وبالجدارة في بناء المستقبل.

اننا نلتهم ابطالنا خوفا من الاجنبي، بينما هو يتهيبهم ويظهر لهم الاحترام، على شرط ان يبقوا في المتاحف او مجرد صور باهتة في الكتب المدرسية، تجتزَأ سيرهم وأثرهم في تغيير احوال بلادهم حتى يظلوا بعض الماضي، لا يمكنهم مغادرته الى المستقبل.

ها هي الدنيا تدور بنا، مرة اخرى، الى عصور الهيمنة الاجنبية على مقدراتنا… ولكننا نستقبل هذا الرجوع الى الخلف كأنه تحرر، وتقدم، ولحاق بالغد.

اننا نكاد ننكر اسماءنا. نكاد، لو استطعنا، نغير جلودنا. اننا نعلّم اطفالنا الرطانة، نمنعهم من تعلم لغتهم الأم. اننا نزور لهم كل ما يمكن ان يجعلهم اكثر ثقة بأنفسهم، وكل ما يمكن ان يملأهم بالاعتزاز بأرضهم وانتمائهم. إننا نقسرهم على احتقار انفسهم فنسلمهم الى المهيمن اشلاء.

إننا نهرب من الهزيمة الى جنسية اجنبية، نبدل فيها اسماءنا، ونستعير هوية اخرى لا نشعر معها بالخجل من الذات، ونترك أرضنا للقادر على اخذها.

اننا لا نرمي الماضي، خلفنا، فحسب، بل نحن نغتال المستقبل ايضاً.

وان تكون معارضا او معترضاً او يصنفك حاكمك »عدوا«، فهذا لا يعني ان تنكر وطنك، بل عليك ان تواجه الغلط وان تقاتل ضده لتستحق وطنك… والهرب ليس وطنية.

بحر أخضر للنوارس

امتلأت القاعة بعينيها الواسعتين وقد جعلهما فرح اللقاء بحيرتين خضراوين تومضان حبورا.

حين جاء دوره في الكلام، كان عليه ان يتجنب النظر إليها حتى لا يخطئ الصفحة التي يقرأ منها، ولكنه كان يُفاجَأ بذلك الوميض حيثما التفت.

كان البحر على بعد نورسين يتحاضنان عبر عناق طائر، وكان الموج يمتد رخياً يطاول الشاطئ الرملي فيختلس منه بعض القبل، ثم ترتد الموجات وقد ارخت زبدها ليذوب حيث عصفت به الشهوة.

لم تكن تستطيع ان تدعوه إلا في حشد،

ولم يكن يستطيع ان يغادر من دون وداع.

واستجاب لغواية احد مضيفيه حين قال: اتأتينا ونعود بغير ان تكحل عينيك ببهاء بحرنا الذي سُرق منه الشاطئ الرملي، وما زالت أمواجه تأتي باحثة عنه مستعيدة اسطورة ايزيس واوزيريس.

في مقهى أنبته عشق البحر، على الشاطئ الذي بات خليطاً من الحجر والاسمنت والخز، وقفوا يملأون رئاتهم بالهواء المنعشة رطوبته. كانت المدينة خلفهم، اما النوارس فكانت تتطاير على مقربة، تتعابث وتطلق زعيقها المنفر، بين حين وآخر، كأنما لتقول انها هنا.

… وكان قد نجح في التخلص من صورتها حين تراءى له طيفها في مقهى مجاور ضاقت جنباته بالوسن الاخضر المنبعث من عينيها وقد ملأتهما الآن لهفة خرساء.

دهمه رفيف أجنحة، فالتفت فإذا النورسان العاشقان يتقاربان في طيران منخفض حتى حجبتهما موجة عالية ظلت ترتفع وترتفع حتى دمعت عيناه، وحين رفع كفه ليمسحهما لمحها تمر بمنديلها فتحجب الوسن الأخضر في العينين الواسعتين.

الطريدة تسهر على صيادها

دخلت متهيبة، بل لعلها كانت خائفة فعلاً من السقوط في »كشف الهيئة«.

حاولت ان تتماسك تحت نظرات »الصياد«، سيما ان مظهره كان يوحي بقدر من السذاجة. قدرت انه تحت تأثير الخمر، او انها تمنت ان يكون على حافة السكر.. وفي انتظار »الامتحان« الشفهي اخذت تتشاغل بتأمل الرياش الفخمة في المنزل الأنيق بثرائه.

في لحظة، ضبطته يمنحها طرف عينه متأملاً. تماسكت. ان قبلها او رفضها فلسوف يمنحها بعد العشاء هدية، ولن تعود صفر اليدين حتى لو لم يتنازل فينزل من عليائه الى عندها.

قال بتكاسل: فلننه الأمر.

لملمت طرف ثوبها، وقامت متعجلة فإذا هي تتعثر بطرف السجادة وتهوي، ولولا انه امسك بها من كتفيها في اللحظة الأخيرة لسقطت أرضاً فتأذى جسدها اضافة الى أذاها المعنوي.

قال بإشفاق: اهدئي. تعالي اجلسي. واضح انك لم تتناولي عشاءك بعد. دعينا نرَ ماذا لدينا للأكل.

أجلسها الى الطاولة، وقام على خدمتها بقدر من الرحمة، لم تعهدها من رجال منتصف الليل. سألها عن اسمها، عن بلدها، عن عائلتها، ولأمر ما لم تعرف كنهه صارحته بكل أسرارها التي لم تكشفها لأحد قبله.

مع خيوط الفجر الاولى كان قد هده النعاس والتعب، فقامت إليه تساعده على الوصول الى سريره، وتنزع عنه ربطة عنقه، وتفك له أزرار قميصه، وتخلع له نعليه، وتدثره بغطاء رقيق.. ثم انحنت عليه تقبل جبينه، فسمعته يقول بصوت واهن: في الغرفة المجاورة سرير، يمكنك ان تنامي، ومع الصباح نتعارف.. لن تجدي سيارة في هذه الساعة المتأخرة.

هربت منها الكلمات فلم تعرف ماذا تقول.. وبعد لحظات انتبهت الى انه غرق في نوم عميق، فحارت في امرها: هل تقبل دعوته، أم تذهب في حال سبيلها وأمرها لله في الوقت الذي ضاع منها؟!

حين استيقظ ولم يجدها قال بصوت عال: كلهن سواء!

لكنه عند المغسلة وجد وريقة صغيرة ملفوفة، وحين فتحها وجد فيها قلادة كانت تعلقها في رقبتها ومعها كلمات اربع: »شكرا، لقد عاملتني كإنسان«.

ابتسم وذهب يبحث في دفتره عن غيرها؟

من أقوال نسمة

قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:

لا تتنازل عن كرامتك بذريعة الحرص على عدم جرح حبيبك.

لا يقبلك حبيبك وانت تتساهل في كرامتك. فالحب ارتقاء بالكرامة الإنسانية الى ذروتها. حبيبي كرامتي، فكيف افرط بمصدر حبي وبمبررات جدارتي بأن أحِب وأحَب.

Exit mobile version