هذه الكتابة تحاذر المؤمنين. الإيمان لا نقاش فيه. هناك قبول وخضوع ودفاع دائم، عما جاء في الكتب. هنا الله، أولاً وأخيراً.. غير ان هناك فسحات واسعة للنقاش. تأسيساً على وقائع وحيثيات، فلا يكون الايمان والدين مرجعاً. في الدين، المرجع هو الآيات “الأبدية السرمدية”.
في الواقع، المرجعية هي العقل والمصالح والقيم والمال والسلطة والسياسة.. وغيرها الكثير. الواقع أغنى مما جاء في الديانات، مذ كانت. ويجب ألا ننسى وأن نعترف، أنّه بين الأديان فروقات أدّت الى فتن وقتال ومجازر. وأنّ بين مذاهب الأديان، فروقات وقتال ومجازر، وأنّ بين الطوائف خلافات وقتال ومجازر. هذا هو التاريخ، وهو “أكثر تصديقاً من الكتب”.
كان لا بد من هذه المقدمة، لأن ما سيأتي قد يثير غرائز المؤمنين والمؤمنات. أولها: المساواة بين الرجل والمرأة، سيل العقوبات، وسيادة الآيات على العقل والتاريخ وتسلسل الوقائع ومنطق التغيير المستدام. وثانيها، ان سلوك القيادات الدينية النصية والسياسية مدان، لأنه تفوَّق سياسياً واقتصادياً ومالياً وعسكرياً، على بلاد ضد بلاد، تدينان للدين نفسه… خلص.
المسألة المثارة راهناً، هي ترجيح العنف على السلم. ترجيح الآية على فريق لا يقر فيها او يتساهل او يتناسى او أنه يُؤوِل النص لصالح الانسان في لحظته الاجتماعية وفي سياقه التاريخي. وأود أن أثير أمراً بالغ الحساسية في عصرنا الهمجي الراهن، وهي مسألة تنفيذ الإعدام، حتى بلا محاكمة، ولا دفاع، ولا محام ولا.. ولا..
هنا، يتحول الدين الى سيف، والنص الى ترسانة احقاد. وهلم جراً من الفتاوى والاجتهادات.
لن ندخل في هذه المنظومات الدينية، خاصة في بلاد تم تسطيح الانسان فيها، وتعويده على الأكل والشرب والانفاق والتجارة واللهو والتسلية والاثراء، الى جانب ملازمة الفقر الذي يجتاح ثلث البشرية المؤمنة بنفس الرب او بمن يقرب منه.
نفذت المسيحية في ما قبل القرن العشرين جداول لتصفية الخصوم، بحروب وصراعات مستدامة على مدى سنوات وعقود. لم تكن الكنيسة يومها، تشبه المسيح. بل كانت قد خلقته وحوّلته الى نصٍ يُلاك بالفم. لا تشبه المسيحية المسيح، مسيح السلام والمحبة، فكان أن حُوَّل مع قيام وترسيخ المكانة السياسية، الى مجرد أوامر وتعليمات. لقد ظُلمت المسيحية في أوائل سنواتها. كما ظُلم محمد في مكة في بدايات دعوته الشاقة الى التوحيد والإنسانية. انهما يتشابهان عندما كانا مظلومين وضعيفين.
“فتح عين واغلق عين”، يتحول الدين، عند الجميع بلا استثناء الى سلطة تدير شؤون الدنيا بالسلطة، وبالقبضة، وبالسفك… لا أنوي هنا، فتح ملفات التعذيب، عند المسلمين والمسيحيين لمن خالفهما الرأي. ملفات عباقرة أحرقوا، وقديسين اتحدوا بالله عشقاً وقولاً وفعلاً. هل نذكر الحلاج والبسطامي والسهروردي المقتول؟ كفى. إن سجل القتل حافل بالضحايا. أما سجل الحروب بين المسلمين، فقد تدشن مباشرة، بعد موت الرسول. بعده حضر السيف، ليس بين مؤمنين وغير مؤمنين (لأنه كان قد أنشأ حالة غير مسبوقة، عندما قبل في الاسلام غير المسلمين.) حروب ما بعد محمد، لم تتوقف بعد. نحن في القرن الواحد والعشرين، والمسلمون مختلفون على كل شيء، والدم بينهم يسيل ويسفك. أما المسيحيون، فقد توصلوا بعد مئات الأعوام الى ان يكونوا شركاء في السلطة، ولهم القرار. ثم كانت لهم جيوش، ثم كانت لهم حروب صليبية وحروب المئة عام في أوروبا، وهلم جراً. ولم يتوقف هذا الاثم المستطير، ربما بعدما نزعت من الكنيسة انيابها، إلا بعد أن أصبحت الشعوب هي المصدر الأول للشرعية.
وعليه، إن تاريخكم معيب. كنتم أكثر سوءاً من قراصنة السياسة والمال. كان الارتكاب دينا والمؤمنون سدنة، ومن خرج عن هذا الصراط، ظل يقاتل ويقاتل، ويقتل ويُقتل، الى ان أصبح القتال الراهن في منطقتنا، بين أبناء الدين الواحد.
كل هذا الكلام الوارد أعلاه، هو سند كاف، لأتحدث عن الإعدام. عن القتل. عن الظلم. عن الاصفاد. عن تحويل الانسان الى قوَال ديني، بلا ابداع. وعليه.
اولاً: الإعدام السري. أكثر بكثير، من الاعدامات العلنية. فالأنظمة العربية، كما كل نظام لا أخلاقي، قامت على الإخضاع. أكرر قامت على الإخضاع. التسلط أحد أسلحتها ولا سلاح غيره. “الشعوب” العربية، ليست شعوباً، إلا بالتقسيط، وبمناسبات “انتخابية” مدوزنة، وليس من حق الشعب اختيارها.
هذه الأنظمة الملكية الأميركية السلطانية والعسكرية، التي ابتلينا فيها بعد تسلمها السلطة في عدد من الدول العربية، قد قتلتنا جميعاً. قتلت الأمل. أخذتنا الى غياهب السجون. قضت على الحرية (شعب بلا حرية، من يكون. انه على دين النبي أيوب). قضت على التفكير، على الاعلام… تريد هذه الأنظمة للشعوب العربية حياة مريحة نسبياً، بشروط نختصرها بـ”سد بوزك”. وسدَت “صفائح” كثيرة “أبوازها”. انحازت الى الملذات والانفاق، واستعملت حكمة رصينة وفاعلة: “من بعد حماري ما ينبت حشيش”.
الإعدام في إيران، يصدر قبل الاعتقال والمحاكمة. وهذا ليس جديداً في منطقة “الشرق الأوسط” وضفافها الافريقية والآسيوية، وصولاً الى أفغانستان العظمى، التي جسدت بجرأة إمكانية العودة الى قبل مئات وعشرات القرون، وذلك برعاية دولية ومذهبية و…
في دولنا العربية، الملكية والدكتاتورية العسكرية، لا نستطيع الإحتساب. لا قضاء فيها. لا حقوق. هناك أوامر امنية، هناك سياسة وحيدة مستدامة: “إذاعة الرعب”. الانسان العربي مرعوب. إذا تجرأ، جهز حقيبة السفر الى منافي الأرض البعيدة. هناك يفقد كل وطنه. وطنه أفكاره. يعيش على تكرارها.
ثم… وهذا هو الأهم. هل تعرف السلطات التي ما زالت تهدد بالإعدام انها في ذروة الارتكاب، حتى ولو كان مرجعها، المدَعى الهياً، غير حاسم الا نتفا من المراجع ليست حكراً على رجال السياسة. رجال الدين لهم الاسبقية.
عندما ينفذ حكم الإعدام، مهما كان الاثم، ومهما كانت الجريمة، فإن آثارها ستكون اولا على عائلته واقربائه وأصدقائه ومعارفه. عندنا نموذج عن التوحش القضائي (القضاء لم يعرف بعد عندنا امرأة قيصر).
عندما وطىء أنطون سعاده ارض المطار، بعد عودته من المغترب، أصدرت الحكومة اللبنانية قراراً باعتقاله. وسعاده مفكر وفيلسوف وعالم اجتماع ومُحدّث النظرة الى الفن والحياة و.. مؤسس حزب نهضة لا اثر فيه ابداً للدين، علماً أنه، وهو ما زال شاباً كتب كتابه الرائد: “الإسلام في رسالته” . تم تهريب سعاده الى الجبال. وبعدها، بدأت المضايقات والتحرشات. لجأ الى سوريا، زمن العسكري حسني الزعيم. بعد أيام، انتفض سعاده على وضعه في لبنان. أطبق عليه رئيس سوريا، وسلمه للسلطة اللبنانية، التي طلبت من ناقليه على الحدود السورية، قتله، بتهمة أنه “حاول الهرب”. رفض الضابط ذلك، ومنع الجنود من أن يأتوا بأي أمر. تسلمت السلطة اللبنانية أنطون سعاده، وبعد أربع وعشرين ساعة، أعدمته… هذا لبنان. بكل شناعته، فماذا تقول عن عشرات الآلاف الذين قضوا، سراً أو علناً، في السجون او في حقول الرماية.
وتقولون بعد كل ذلك: “ما الذي جلب على امتنا كل هذا الويل؟” .
عندما تنفذ عقوبة الإعدام، ينتهي عذاب “المتهم” وحتى ولو كان مجرماً. الإعدام، عملية تعذيب مستدام لأمه وأبيه واخوته واخواته وزوجته وأولاده وأصدقائه. عذاب لا يطاق.. لا يوصف. هذا إذا كان متهماً بجريمة. فكيف إذا كانت قد “رُكّبت” له جريمة؟
وعليه، بعد مرور أكثر من ثلاثة آلاف سنة، توصلت الحكومات التي لا تستطيع ان تُدرّس حقوق الانسان (قد تهملها وفقاً لمصالحها، تماماً كما يحصل مع الغرب الذي يتغاضى عن الجريمة الإسرائيلية المتسلسلة زمنياً حتى اللحظة). الحكومات الغربية مستقلة عن الدين، تقريباً منذ 200 عام. والنهضة الغربية نمت عبر مفكرين وهزمت دين الآبات والكنيسة.
خسرت الكنيسة كل ماضيها السياسي المشين، انها تتعكز اليوم ولا تعرف كيف تتصرف مع انسان القرن الواحد والعشرين.