طلال سلمان

الإضراب كطلب للنجدة…


ليست دعوة المعارضة إلى الإضراب العام في لبنان “سابقة” أو “بدعة مستحدثة”، بل إن لها محطات لا تنسى في تاريخ هذا النظام السياسي لهذا الوطن الصغير، الذي وُلد مأزوماً وعاش مأزوماً، ولا دليل على أن أزمته ستجد حلها الجدي والنهائي في المدى المنظور.

في مراحل سابقة كان يمكن التأريخ للإعلان عن إفلاس النظام السياسي واشتداد أزمته إلى حد يتعذر معه ابتداع أي حل تلفيقي لها، بإعلان “المعارضة” الدعوة إلى الإضراب العام، التي تشكل ـ في جانب منها ـ دعوة السلطة إلى مراجعة بعض قراراتها، وأحياناً إلى تجاوز ذاتها كمصدر وحيد للقرار، والاستماع إلى صوت الاعتراض والتلاقي مع معارضيها أو خصومها في منتصف الطريق حتى لا تكون فتنة، أو لا تستمر الأزمة وتشتد فتهدد التوازنات الدقيقة التي يقوم عليها هذا النظام الفريد.

بل إن الدعوة إلى الإضراب العام كانت، في الغالب الأعم، بمثابة “نداء” من المعارضة بطلب النجدة من “الدول الراعية” لهذا النظام، عربية بالأساس وأجنبية من خلف ستار، تبلغها فيه أن “التسوية” التي كانت تطمئن إلى ثباتها واستقرارها قد اهتزت وهي في طريقها إلى الانهيار، ولا بد من معالجة تتجاوز التفاصيل إلى جوهر الموضوع… أي إلى “الصيغة”!

أكثر من هذا: في بعض المحطات التاريخية للصراع بين القوى السياسية مختلفة المنطلقات والتوجهات وبين “النظام” تمت التضحية برئيس الجمهورية لحفظ “الصيغة” (بشارة الخوري 1952 ـ كميل شمعون 1958)، كما ابتدع حل خاص 1976 هو إجراء انتخابات رئاسية مبكرة مع بقاء الرئيس القائم بالأمر (سليمان فرنجية) في القصر الجمهوري حتى انتهاء ولايته.

أما التضحية بالحكومة لحفظ “مقام الرئاسة” و”كرامة الرئيس” فكثيرة جداً.. حتى ليمكن القول إن رئيس الحكومة ـ في عهود ما قبل الطائف ـ كان الفدية الدائمة لاستنقاذ رئيس الجمهورية بوصفه رمز ديمومة النظام واستقراره.

لم تكن المعارضة، في الزمن الماضي، تسلك أو تتصرف طائفياً.. وكانت تحاذر أن يبدو إضرابها وكأنه موجه ضد “طائفة” الرئيس في حين أنه موجه إلى سياسات تعتبرها خاطئة، ولا بد من وقفها.

وكان “الجمهور” يتعاطى مع الدعوة إلى الإضراب العام على أنها حركة اعتراض سياسية أقفلت في وجهها أبواب الحلول بالتسوية المقبولة والممكنة فلجأت إلى ذروة ما يتيحه النظام الديموقراطي، أي الدعوة إلى الإضراب العام، فإن نجح كسبت الرهان على إمكان التغيير وإن فشل تجرعت الخسارة باعتبارها من الثمار المرة للديموقراطية.

ولا مجال للقول إن هذه القواعد العامة قد اختلفت الآن عما كانت عليه سابقاً.

لا مقدس في السياسة: لا بين القادة أو الزعماء أو الأقطاب ولا بين البرامج ـ متى وُجدت ـ أو بين المقترحات التي تُطرح لعلاج أزمة سياسية شاملة كالتي يكاد لبنان يختنق في أسرها.

لا الحكومة من المقدسات ولا المعارضة من أهل العصمة،

والصراع هو بين برامج أو أطروحات سياسية (واقتصادية حكماً)، لا علاقة لها بالدين أو بالطوائف من بعيد أو قريب، بل ولا علاقة لها بشخص رئيس الحكومة والوزراء وإنما بالنهج السياسي المعتمد،

والأزمة السياسية يمكن حلها، مهما بلغت درجة التعقيد في بنود الخلاف وتفاصيلها. وبديهي أن حلها، إذا ما كنا نعتمد قدراً من الديموقراطية يأتي من داخل هذه الديموقراطية التي هي بدورها “خلاصة تسويات معقدة” تجمع أو تحاول أن توفق بين السياسي والطائفي، الاقتصادي والاجتماعي، في ظل “رعاية” هي دائماً عربية ـ دولية، أو دولية بواجهة عربية (وهذا يتعلق بموقع العرب، كدول، على خريطة التأثير)..

قبل أيام، عاش اللبنانيون لحظات أمل باقتراب الجهود (العربية) من تحقيق إنجاز هائل يتمثل بإعادة تركيب الحكومة بما يحقق نوعاً من التوافق بين القوى السياسية المتعارضة… ولكن يبدو أن “الدول” لم توافق فسقط المسعى.. والأمل!

وبعد أيام أو أسابيع لا بد أن يتوصل المعنيون بأمرنا ومن ضمنهم الخائفون من نتائج تفجّر الأزمة في لبنان على أوضاعهم في بلدانهم، إلى صيغة تسوية ما، يمكن لمختلف الأطراف أن يقبلوها من دون أن يشعر أي طرف أنه قد أُلغي أو شُطب من المعادلة السياسية الداخلية ذات الأبعاد العربية والدولية.

ربما لهذا يبدو الاستنفار الهائل الذي أعلن في مواجهة الدعوة إلى الإضراب العام، غداً، وكأنه يجيء من خارج السياق التقليدي للصراع السياسي داخل إطار النظام الفريد، وفي ظل معادلاته الحاكمة وخارجه..

وجميل أن نشهد هذا الاهتمام الواسع، خارج الحدود وخارج السياسة أيضاً، بمصير الحكومة في لبنان، والذي يتجاوز القيادات الرسمية وحتى القيادات السياسية إلى رحاب من لم نتعوّد منهم النزول إلى وحل السياسات المحلية، بحكم مواقعها في الجغرافيا وفي مواقع التوجيه والإرشاد.

ولكن حبذا لو أن هؤلاء الأفاضل والمخلصين في إيمانهم، قد نظروا إلى لبنان ككل، وإلى أزمته السياسية باعتبارها أحد وجوه العجز الفاضح للنظام العربي في مواجهة الأزمات التي يستولدها بقصوره وتخلفه، وبهربه من التصدي للمشكلات التي تواجهه، وترك معالجتها “للدول” التي تهتم بمكاسبها، ولا تعبأ بمعاناة الشعوب…

بل إن هذه “الدول”، التي يمكن تلخيصها بالإدارة الأميركية ومن يسير في ركابها، قد يسعدها اشتداد أزمات هذه الأنظمة التي تلوذ بها وتعتمد في دوام سيطرتها عليها، لأن ذلك يوسع أمامها هامش التدخل، فتتدخل كيفما شاءت لها مصالحها انطلاقاً من قاعدة أن المكاسب لها والغرم على من طلب تدخلها واحتمى به.

إضراب الغد دليل جديد على ان الأزمة السياسية في لبنان قد بلغت ذروة جديدة من ذرى التعقيد بما يستحيل معه معالجتها محلياً.

الإضراب طلب نجدة أكثر منه مباشرة لانقلاب سياسي،

… بينما في كثير من الأصوات المعترضة على هذا الإضراب السلمي دعوة صريحة إلى استكمال “الاستيلاء على السلطة” بالمواجهة المباشرة في الشارع… وإن كان بعض “الحكماء” قد طالبوا الجيش بإنجاز هذه المهمة الدموية لحسابهم.

والأزمة ستبقى مفتوحة، بعد “مؤتمر سيدر”، مهما كانت قيمة القروض أو المساعدات التي ستعود بها الحكومة..
ولنراجع تجارب باريس ـ 1 وباريس ـ 2 الخ… ونتائجها على المستويين السياسي والاقتصادي فضلاً عن الاجتماعي.

والشواهد أمامنا وهي ناطقة، ولو أن ما حصلنا عليه قد حل الأزمة لما كان ثمة ضرورة للدعوة إلى الإضراب، إذ كانت ستبدو “ترفاً” لا يليق ببلد يهجره شبابه ويعيش أهله في ضائقة خانقة تعطي المعارضة مدى واسعاً للعمل، مهما كان شكل المواجهات، خصوصاً في ظل نظام مشلول ومعطلة مؤسساته قبل الإضراب وبعده.

نشرت في 22 كانون الثاني 2007 (نعيد نشرها توكيدا لواقع حالة التراجع والانحدار التي فاقت كل التوقعات.. حتى أكثرها تشاؤماً!)

Exit mobile version