طلال سلمان

الأنظمة العربية مشغولة بحروبها.. والشعوب مغيبة: ليس لفلسطين إلا دمها..

خرج أهل النظام العربي أبكر مما يجب من ميدان فلسطين ..

في البدايات كانت “الهدنة” الاضطرارية تفصل بين عدوان إسرائيلي وآخر ..

ثم كان العدوان الثلاثي في العام 1956 “حرباً اسرائيلية” عل مصر بمشاركة بريطانيا (ثأراً منها لإخراجها من مصر) وفرنسا (ثائراً منها لهزيمتها أمام الثورة الجزائرية التي دعمتها مصر جمال عبد الناصر كما الشعب العربي في كل أرضه) ..

في العام 1967، وتحديداً في الخامس من حزيران (يونيو)، شنت قوات العدو الاسرائيلي الحرب على مصر، في غفلة منها، فاحتلت كامل شبه جزيرة سيناء حتى قناة السويس، وعلى سوريا في وقت معاً فاحتلت هضبة الجولان وهددت دمشق.

ولجأت مصر الى حرب الاستنزاف خلال فترة الاستعداد للعودة الى الميدان (1968 ـ 1969)، في حين كانت تحضر الجيش لعبور القناة الى الضفة الأخرى.

وبرغم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28 أيلول 1970، بصورة مفاجئة، وبعد مجهود هائل بذله لوقف الحرب الأردنية ضد منظمة التحرير الوطني الفلسطيني وفدائييها، فقد تواصل التنسيق المصري ـ السوري ليبلغ ذروته بقرار الحرب على الكيان الإسرائيلي في الساعة الثانية من بعد ظهر السادس من تشرين الأول (اكتوبر) 1973 … وحقق فيها الجيشان بالقفزة الأولى نتائج باهرة: عبر الجيش المصري الحاجز المائي (قناة السويس بكفاءة نادرة وبسالة استثنائية) وتقدم داخل سيناء..

في حين استطاع الجيش السوري دحر قوات العدو الإسرائيلي والوصول الى تحصيناته في جبل الشيخ محرراً الجولان وصولاً الى ضفاف بحيرة طبريا..

ومن أسف فلم يكن لقوات منظمة التحرير الفلسطينية دور في هذه الحرب، مما خلف لدى قيادتها (وجماهيرها) مرارة عميقة سرعان ما انقلبت الى احساس بالخيبة والعزلة عندما وافق الرئيس الراحل أنور السادات على زيارة القدس المحتلة حيث عقد لقاءات رأى فيها الكثيرون إساءة لدماء الشهداء من أجل فلسطين .

بعد ذلك اندفع ياسر عرفات الى تأمين أوسع اعتراف دولي ممكن، بمنظمة التحرير، حتى لو كان الثمن ان يعترف العديد من الدول الصديقة بالكيان الإسرائيلي (وهي قد كانت امتنعت عن الإعتراف بكيان العدو حرصاً على الصداقة مع العرب… وبين هذه الدول الصين والهند وغيرهما من دول عدم الإنحياز في آسيا وافريقيا..)

.. وعندما توجه ملك الأردن الهاشمي حسين بن طلال نحو اتفاق الصلح مع العدو في وادي عربة في العام 1994 (تتويجاً لاتفاقات سرية متعددة) باتت قيادة منظمة التحرير أكثر استعداداً للوصول الى اتفاق مباشر مع العدو، وهو الاتفاق الذي يقول السيد محمود عباس انه انجز عبر اتصالات هاتفية تواصلت لمدة سبع ساعات..

قال أهل النظام العربي لشعب فلسطين: اذهب انت وربك فقاتلا..

وانقادت منظمة التحرير، وهي في وحدتها، الى الشروط الإسرائيلية، فحولت الفدائيين الى “شرطة” تحت قيادة الاحتلال وبإشرافه، ودخل ياسر عرفات الى غزة ثم انتقل الى الضفة وسط الزغاريد والهتاف ورصاص الهواء.

***

كان مستحيلاً أن تتحول “السلطة” رهينة الإحتلال الإسرائيلي الى دولة. فأرضها ماتزال محتلة جميعاً، وجيش الإحتلال الإسرائيلي يستطيع أن يحاصر رئيس السلطة وان يمنع عليه الحركة، وان يعتقل من شاء وقت يشاء وفي أي مكان من الضفة (وقطاع غزة الذي منع على أهله التواصل البري مع أشقائهم في الضفة إلا عبر حواجزه وبإذن منه..)

ولقد قتل الشعور الثقيل بالخيبة ومراراتها قائد الثورة الفلسطينية ورئيس سلطتها، والرجل الذي شغل العالم بحركته الدائبة ومناوراته وهربه من الاتفاقات الملزمة مع هذا الطرف العربي أو ذاك، بذريعة الحرص على قضيته المقدسة وإبعادها عن سوق النخاسة بالمناقصة والمزايدة..

وهكذا “ورث” محمود عباس السلطة في جو حزين، وقد ضعفت مؤسسة منظمة التحرير، ونقض القادة العرب تعهداتهم، واستفردت اسرائيل بـ”السلطة” فحاصرتها ومنعت عليها الحركة إلا في أضيق الحدود، وشدت الحصار على “شرطتها” التي بلغت الضفة منهكة ومتشوقة الى “السلطة” ولو على أهلها ..

وتباعدت غزة عن الضفة حتى “استقلت” عنها تماماً بتحريض من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين تحت الرعاية التركية وبتمويل من قطر..

ربما لأن محاولة غزة تميز ذاتها عن الضفة، ونجاحها في إقامة سور حماية، أو ما افترضته كذلك، زاد انفصالها عن الضفة، وتبدى وكأن الفلسطينيين القابعين جميعاً تحت الإحتلال الإسرائيلي قد باتوا “رعايا” لسلطتين تنفصل إحداهما عن الأخرى الى حد العداء .. وأبسط الأدلة ان السلطة في رام الله لم تحرك ساكناً، اعتراضاً أو تهديداً بالمواجهة بينما العدو الإسرائيلي يشن حروبه المتوالية على غزة المحاصرة براً وبحراً وجواً …

***

بعد ذلك ستنشغل الدول العربية بالحروب فيها وعليها:

في البدء كانت حرب صدام حسين على إيران بعد الثورة الإسلامية فيها، وهي قد استغرقت سبع سنوات كاملة … ولم يشفع لهذه الثورة ان شعاراتها كانت فلسطينية بعنوان القدس.

ثم كانت غزوة صدام الكويت التي انتهت بهزيمة الجيش العراقي ودخول القوات الأميركية وبعض العراق محتلة … وقبل ان تقتحم عاصمته بغداد وتعتقل “صدام” ثم تسلمه الى الشيعة العراقيين ليعدموه بطريقة مشينة، من شأنها ان تعمق بذور الفتنة التي زرعها الإحتلال الأميركي بمساعدة بعض الأنظمة العربية ..

ثم كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان بعنوان “حزب الله” في العام 2006، بعد ما كان مجاهدو هذا الحزب قد نجحوا في إجبار الإحتلال الإسرائيلي على الجلاء عن أرض لبنان بعد مقاومة باسلة امتدت لأكثر من ثمانية عشر عاماً.

وكانت هذه الأحداث الخطيرة تدفع بالقضية الفلسطينية الى الخلف … لا سيما وان “سلطتها” التي لا تملك من السلطة إلا العلم وحرس الشرف، ويحتاج رئيسها الى إذن اسرائيلي كلما أراد الخروج من عاصمة السلطة في رام الله الى أي مكان في العالم ..

لكن شعب فلسطين لم يهدأ ولم يستكن وبالطبع لم يستسلم ..

وهكذا توالت الانتفاضات في مختلف مدن الضفة وقراها … كما توالت الحروب الإسرائيلية على غزة .. وتعاظم القمع الإسرائيلي حتى تجرأت سلطاته على منع الصلاة في المسجد الأقصى “الذي باركنا من حوله”..

وفي الأيام الأخيرة شهد العالم على ثبات أهل فلسطين وصمودهم وتمسكهم بحقوقهم في بلادهم، واكتسبت الصلاة في الأقصى بعداً إضافياً رمزياً إذ هي تأكيد للصمود والتمسك بأرضهم ودينهم .. خصوصاً وقد شارك المسيحيون من الفلسطينيين أشقائهم المسلمين اعتصامهم في المسجد الأقصى والدفاع عن حياضه باعتباره رمزاً للإجماع الوطني فضلاً عن موقعه الديني الذي يداني القداسة.

***

مقابل هذا الارتفاع المجيد بالثبات الفلسطيني في الأرض المقدسة والتضحيات الغوالي التي قدمها الفتية والصبايا في هجماتهم على جيش الإحتلال، بالسكاكين (متى توفرت) والحجارة، والمواجهة أمام سور المسجد الأقصى، ومحاولة اقتحام السور المكهرب..

مقابل هذه كله استمر الصمت الرسمي العربي، وأدارت الأنظمة وجهها الى الجهة الأخرى، خلا بعض التصريحات الرسمية الخالية من المعنى، ودعوة متأخرة وجهها الأمين العام لجامعة الدول العربية (الذي لم يعد لوظيفته أي معنى في عصر الشقاق العربي حتى الاندثار) الى عقد اجتماع للثرثرة، قد لا يشارك فيه أي مسؤول عربي يمثل دولته ..

وواضح أن كل دولة عربية مشغولة عن فلسطين بمشكلاتها التي تصل في بعضها الى حد الحرب (سوريا، العراق، اليمن)، والى بعضها الآخر الى الإنشغال بهمومها الثقيلة التي تهدد كياناتها السياسية.

لك الله يا فلسطين .. فليس لك إلا دمك!

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version