فُرض على العرب، مع لحظة انهيار السلطنة العثمانية وعشية قيام دولة اتاتورك، أن ينخرطوا في حرب لم يكونوا مستعدين لها وسط انهماكهم بمحاولة استعادة بلادهم وحقهم في أن يقرروا مصيرهم فوق ارضها واحدة موحدة (أقله في المشرق العربي).
لقد استولد الاستعمار الغربي الذي “ورث” بلادهم عن السلطنة، او انه قد تبنى مشروع الحركة الصهيونية بإقامة الكيان الاسرائيلي فوق الارض الفلسطينية، بالرعاية البريطانية المباشرة… بينما تقاسمت بريطانيا وفرنسا اقطار المشرق العربي: فاقتطع الانكليز من سوريا “امارة شرقي الاردن” لتكون بعض سور الحماية للكيان الاسرائيلي العتيد، كما اقتطعت “المحافظات الاربع” ـ أي الجنوب والشمال والبقاع وبيروت ـ من سوريا لتضمها إلى “متصرفية جبل لبنان” فتقوم بذلك “الجمهورية اللبنانية”، بينما فرض الانتداب الفرنسي تقسيم سوريا إلى اربع دويلات سرعان ما انهارت جميعاً تحت ضغط الشعور الوطني والايمان بوحدة سوريا.. اما العراق فقد حولته بريطانيا إلى مملكة منحت عرشها لفيصل الاول الابن الثاني لشريف مكة كتعويض لاحق لأبيه الذي نادى بنفسه ملكاً على العرب جميعاً بعيد انفجار الحرب العالمية الثانية بتحريض من بريطانيا. وهكذا نال الهاشميون جائزة العراق، بعد الاردن.
لقد فُرض على العرب أن يحاربوا منفصلين، وأحيانا متواجهين، عدوهم القومي والوجودي على امتداد القرن الذي مضى بين انفجار الحرب العالمية الاولى واليوم، سواء أحمل تسميت “الاستعمار” بريطانيا او فرنسيا، كما في الماضي، او اميركيا ـ اسرائيليا كما هي حالنا اليوم.
بعد قرن كامل من هذا التقسيم المدروس، وزرع الكيان الاسرائيلي في قلب المشرق العربي، وتعزيزه بالمال والرجال والسلاح بحيث يكون أقوى من العرب مجتمعين، ها هم العرب يقتتلون في ما بينهم، ويقدم بعضهم على مصالحة العدو والتحالف معه ضد اشقائه: يفتح في الكيان الغاصب السفارات ويوقع معه المعاهدات ويعزز معه التبادل التجاري.. وصولاً إلى النفط والغاز..
لننظر إلى خريطة الوضع العربي اليوم:
ـ دول المشرق العربي غارقة في دماء شعبها من عند شاطئ البحر الابيض المتوسط حتى شواطئ البحر الاحمر عند باب المندب.
ـ دمرت مغامرات صدام حسين العراق (الحرب ضد ايران، ثم غزو الكويت) فسقط تحت الاحتلال الاميركي منذ ربيع العام 2003.. ولقد لجأ هذا الاحتلال إلى سياسة “فرق تسد” فاستغل جوع الشيعة إلى السلطة بعد حرمان منها استطال منذ اعلان “استقلال” العراق وإقامة مملكة هاشمية فيه مُنح عرشها للملك فيصل الاول ابن الشريف حسين، فتسلم الحكم مع اهل السنة مستبعداً الشيعة… وظلت هذه السياسة متبعة حتى آخر ايام صدام حسين، فلما أسقطه الاميركيون سلموا الحكم إلى الشيعة لتكون فتنة. ثم كان أن فتحت ارض الرافدين، في ظل الوجود العسكري الاميركي، امام طوابير “داعش” التي انبتتهم الصحراء في غفلة من ذلك الاحتلال الثقيل!! وتم بعد ذلك ومعه اعادة تحريك موضوع الأكراد وتحرضهم على رفض الحكم الذاتي داخل فيدرالية عراقية، ولعبت تركيا التي تضطهد اكرادها الذين يزيد تعدادهم الرسمي على 12 مليون مواطن، دور المحرض لأكراد العراق طمعاً بالنفط وإضعاف العراق، خصوصاً وأنها تتحكم بكمية المياه في نهري دجلة والفرات اللذين ينبعان في اراضيها وتندفع مياههما نحو العراق (مروراً بسوريا) حيث يشكلان بعد تلاقيهما في جنوبه شط العرب.
وبرغم انتصار العراق مؤخراً، وبدعم ايراني مباشر، و”حياد” اميركي ملفت تجاه “داعش” فان دولته تعاني من ضعف بنيوي يشل ادارتها، بينما توالى زعماء الحقبة الاستعمارية الجديدة على نهب خيرات البلاد التي كانت غنية فأفقرها حكامها وأتباعهم.. وباختصار فان العراق يحتاج سنوات طويلة قبل أن يعود إلى لعب دوره الفاعل في محيطه.
ـ أما سوريا التي كانت تتبدى كنموذج قابل للنجاح فقد انهكتها الحرب فيها وعليها، والتي دخلت عامها السابع دون أن تتبدى لها نهاية واضحة، مما يتهدد كيانها السياسي في دولته وشعبها في وحدته الوطنية التي كانت راسخة كالجبال.
والشعب الآن بين مشرد في الداخل ومشرد في الخارج، على امتداد الدنيا الواسعة بينما تعيش دمشق على وقع القصف، وحلب شبه مهدمة، وكذلك حمص وحماه، اما الشرق (الرقة ودير الزور والحسكة، وهي المناطق الغنية بالنفط) فقد احتلته القوات الاميركية خلسة، بغطاء كردي… بينما دفعت تركيا بقواتها لاحتلال بعض الشمال بعنوان ادلب، ثم اندفعت تحاول احتلال بعض الشرق بعنوان عفرين، بذريعة مكافحة “الخطر الكردي”، الا انها فوجئت بالأميركيين يدعمون الاكراد، بينما الروس يدعمون النظام..
والمأساة مفتوحة، بعد وسوريا تنزف مدنها ـ عواصم التاريخ، وشعبها ومواردها واستقلالها ودورها الذي كان موضع تقدير الخصوم قبل الاصدقاء.
ـ بالمقابل تفجر الصراع على السلطة في اليمن فتم عزل “رئيسه الابدي” علي عبدالله صالح، فاذا بالسعودية تقتحم ميدان الحرب في هذه الدولة الفقيرة الا بتاريخها كأول مركز للحضارة في دنيا العرب.
وفاجأت دولة الامارات العالم بتحولها إلى قوة عسكرية مساندة للسعودية بطيرانها وجيشها الذي يتشكل من امم شتى، ثم ببحريتها التي احتلت بعض الجزر اليمنية في بحر العرب وصولاً إلى مضيق باب المندب.
ولقد فتك مرض الكوليرا، اضافة إلى الحرب الظالمة، باليمنيين الفقراء، رجالاً ونساء وأطفالاً على وجه الخصوص..
ـ ولكي تكتمل الكوميديا السوداء فصولاً فقد تفجرت ازمة العلاقات بين الامارة المن غاز قطر، وكل من السعودية ودولة الامارات، وتفاقمت خطورة متجاوزة القطيعة إلى حد الحصار.. ولم تنفع وساطة الكويت في حل الازمة، وان هي نجحت في استبعاد “الحل العسكري”.
ـ في هذا الوقت تواصل مشيخة البحرين التي تحولت إلى “مملكة” مواجهتها العنيفة لمعارضي السلطة فيها، بعد محاولة دمغهم بالطائفية (الشيعة) تمهيداً لاتهام إيران، التي تتهمها السعودية من جانبها بدعم الحوثيين (الزيود وهم فرقة من الشيعة) في اليمن، حتى يتم طمس السياسة وتتحول إلى فتنة جديدة داخل المسلمين.
*****
يكاد المشرق العربي، من المتوسط إلى البحر الأحمر، يغرق في دمائه..
ولقد انفرط عقد العرب: فلا جامعة عربية، ولا أي اطار جامع (الا مؤتمر وزراء الداخلية الذي لم يتأخر يوماً عن موعد انعقاده السنوي، والأخير كان في الجزائر، قبل ايام )..
أن دوله جميعاً غارقة في حروب خارج الميدان الاصلي، فلسطين، المتروكة لمصيرها، ينزف شبابها وصباياها دماءهم في المواجهات مع جيش الاحتلال الاسرائيلي، في حين يواصل عدوها التمكين لاحتلاله، ويشجعه التحريض الاميركي بلسان الرئيس دونالد ترامب على اعتماد القدس المحتلة “عاصمة” لكيان اغتصابه.. وها هو يعلن خلال استقباله رئيس حكومة العدو نتنياهو، قبل أيام، انه قد يجيء ـ مرة أخرى ـ إلى الارض المقدسة ليشارك الاسرائيليين احتفالهم بالقدس “عاصمة ابدية للكيان الاسرائيلي”… بينما الملوك الرؤساء العرب يتوافدون على واشنطن ويقدمون مليارات الدولارات لرئيسها ترامب ولخزينتها، من دون أن يجرؤ أي منهم على لفت نظر الادارة الاميركية إلى الجريمة التي ترتكبها بحق التاريخ قبل العرب وبعدهم “بمنح” القدس لإسرائيل وتطويبها عاصمة لدولتها العادية والمستعدية.
إن العرب يقتتلون في ما بينهم مقدمين لعدوهم جوائز من ارضهم مغطاة بدمائهم وتضحيات آبائهم واجدادهم.
هل نسينا ليبيا التي اندثرت دولتها وعاد شعبها قبائل مقتتلة ومناطق نفوذ لدول تتصارع على نفطها.. علما أن بعض دول الخليج (الامارات وقطر) ضالعة في هذا الصراع..
وكيف يمكن استنقاذ الغد العربي المهدد بأن يغرق في أرخبيل الصراعات العربية خارج الميدان الاصلي للصراع، والتي تخدم العدو الاسرائيلي ومعه مشروع الهيمنة الاميركي المطلقة على الوطن العربي بغير مقاومة تُذكر.
تلك هي المسألة… فهل يهتم أحد؟!
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية