طلال سلمان

اعلان مرئي لافلاس دولة

أما وقد تمّ تنفيذ حكم الإعدام في تلفزيون لبنان، وأُقفل الباب على سجله الحافل، وتحولت شاشته إلى »ورقة نعي« بالأزرق لمرفق عام ساهر الناس وسامرهم على امتداد أربعين سنة أو يزيد، فلا أقل من كلمة رثاء تليق بتاريخ هذه المنشأة العامة التي سكنت وجدان جيلين أو ثلاثة فأبهجتهم زمناً، ونفعتهم وزادت من معارفهم ومعلوماتهم، حين كانت تتوجه إليهم، وأساءتهم زمناً آخر حين صارت تحاول »توجيههم« وكأنما بالأمر، إلى حيث لا فائدة لهم ولا نفع ولا رغبة.
أول ما لا بد من قوله: إنه ليس أسوأ من الخطأ في قرار الإقفال إلا الذرائع التي قُدمت لتبرير عجز الدولة عن إدارة مرفق حيوي يحمل اسم البلاد، أو عن ضبط الإنفاق فيه، أو الحفاظ على المستوى الذي كان عليه ذات يوم، خصوصاً أنه التلفزيون »الأول« وبالتالي »الأعرق« والأغنى بالكفاءات التي على أكتافها وبخبراتها قامت تلفزيونات الطوائف والمذاهب وأصحاب المصالح على حساب المحطة الوحيدة »العامة« والمنتمية من حيث المبدأ إلى كل الناس.
ومع التسليم بأن هذا المرفق قد عانى من سوء الإدارة والإنفاق غير المجدي والهدر وقلة الكفاءة أحياناً، ولكن المحاسبة اتجهت إلى أدنى وليس إلى أعلى، أي إلى المسؤول الفعلي عن هذا الواقع الذي استخدم ذريعة لتبرير الإقفال.
مَن عيَّن المدير السيئ أو المهمل أو الغبي أو ناقص الأهلية، ومَن وافق على القرار الخطأ، ومَن أقر الإنفاق غير المجدي؟! مَن اقتطع لنفسه ساعات البث الطويل على حساب البرنامج العام وعلى حساب أعصاب الناس وحقهم في المتعة أو المعرفة؟! ثم مَن أمر فأُنتجت باسمه وعلى نيته »الكليبات« المهينة لكرامة الدولة ومؤسساتها بقدر ما هي مسيئة إلى عقل المواطن المتفرج وإلى ذوقه فضلاً عن رأيه السياسي؟!
لقد استنزفوا هذه المحطة ثم نحروها بعدما رموها بكل خطاياهم وأخطائهم!
سخّرها جميع المسؤولين الذين تعاقبوا على الحكم، في السنوات الأخيرة، كل بحسب »نفوذه« و»هيمنته«، فاستنزفوا رصيدها الطيب لدى جمهورها كما استنزفوا إمكاناتها لغير ما رُصدت له أصلاً ولغير ما ينفع الناس أو ينفعها، وفي العديد من الحالات ما يضر الناس ويضر صورتها عندهم.
تلفزيون لبنان ضحية أخرى من ضحايا تسخير العام لما هو خاص، وتحويل المرفق العام إلى موقع نفوذ شخصي، واستخدام المال لتأمين خدمات خاصة للجمهور لكي يتحول إلى رعية لمن يشتريه بالمنافع والوظائف.
تلفزيون لبنان: شهيد الغباء السياسي والسلطة التي لا تحترم الناس لا في عقولهم ولا في أموالهم.
إنه إعلان رسمي بهزيمة ساحقة »للعام« أمام »الخاص«، »للوطني« أمام »الطائفي«.
لقد استثمروه حتى نحروه، ثم تباروا في التبرؤ منه، ولم يقل أي منهم كلمة طيبة في رثائه… لعبوا بمجالس إدارته، وتسبّبوا بالعجز المتفاقم في ميزانيته، وتلاعبوا بموظفيه ومذيعاته ومذيعيه وأخباره وبرامجه، ثم حاسبوه على ما ارتكبوه هم!
لم يكن ينقص الدولة غير هذا الإعلان المرئي عن إفلاسها!
حمى الله سائر المنشآت العامة!

Exit mobile version