ليس أدل على خواء الحياة السياسية في لبنان، سواء على مستوى السلطة أم على مستوى معارضيها الكثر، من داخلها أم من خارجها، لا فرق، من هذه الحرب الدون كيشوتية المفتوحة من حول الإعلام وعليه.
مرة يصوّر الإعلام وكأنه مصدر الشر المطلق وموقظ الفتنة النائمة (؟) وهذا اتهام متجن وباطل، ويمكن إدراجه في باب »رمتني بدائها وانسلت«!
ومرة أخرى يتم التعامل مع الإعلام وكأنه صاحب القرار في الشأن العام، وهذا تجاوز على الواقع فضلا عن كونه تجاوزا لأصحاب المقامات الرفيعة ممن ينسبون الى أنفسهم أدوارا حاسمة في سياسات الدول الكبرى، عربية وأجنبية.
أما الحقيقة فهي أن الضجيج السياسي، وهو مضجر بمستواه المبتذل عموما فضلا عن كونه متعبا للسمع والعقل معا، ليس تعبيرا عن حيوية الحياة السياسية، بل هو بديل »صوتي« عن السياسة بما هي تنافس بين قوى ذات برامج معلنة وأحزاب ذات تاريخ وتجربة ومصالح لها من يتبناها ويعبر عنها في المجلس النيابي كما في الشارع بقوة تمثيله لا بعلو صوته ولا خاصة بمدى استثماره للمناخ الطائفي مزايدة أو مناقصة.
إن السلطة في لبنان منقسمة على ذاتها: في السياسة كما في الاقتصاد، في الموقف من المقاومة كما في الموقف من السياسة الأميركية تجاه منطقتنا، في الشأن الاجتماعي كما إزاء المعارضات المتعددة، حيث »يحالف« بعضُ السلطة بعضَ المعارضة ضد »الآخرين«.
وانقسام السلطة، في ظل الفراغ السياسي، سرعان ما ينحدر الى وهدة الاستثمار الطائفي، فيتخذ شكلا انقساميا حادا لا يلبث أن يمتد (أو يجد من يمده) الى الشارع.. ويكون الإعلام هو »الأداة« بوصفه المرآة العاكسة، وما أسهل والحالة هذه من أن يُضبط متلبسا ويقدم الى المحاكمة بوصفه »الجاني«!
فإذا غاب المعيار السياسي في الحكم على انقسام السلطة برز فورا المعيار الطائفي أو المذهبي، خصوصا وهو حاجب ممتاز للمنافع الشخصية التي يسهل تمويهها بمصالح هذه »الشريحة« أو تلك، وأحيانا هذه »المنطقة« أو تلك، لتمويه الغرض الطائفي.
فالسلطة في لبنان »سلطات«، ولكل منها »إعلامها« الذي يتم تضخيمه على حساب الإعلام الفعلي، خصوصا أنه سيكون مكلفا ليس فقط بتبرير الانقسام وأدلجته بل وبتزوير معطياته الأصلية ثم نتائجه على حياة الناس، بدءا من لقمة خبزهم الى آرائهم ومواقفهم وانتهاء بأمنهم!
يكفي للتدليل على خطورة هذا الانقسام بتأثيراته المدمرة على الحياة العامة، أن نتوقف عند أمثلة محددة، أولها: تحديد الموقف الرسمي اللبناني من مختلف المسائل المطروحة، وبالتحديد منها ما يدبر لمنطقتنا، سواء في فلسطين أو في العراق وصولا الى السودان.
ليست قليلة الوقائع التي ظهر فيها تباين علني أو شبه علني بين موقف رئاسة الجمهورية وموقف رئاسة الحكومة. في الغالب الأعم تم تدارك الأمر، في ما بعد، مباشرة أو بالواسطة، وأعيد التوكيد على موقف موحد يمثله »رئيس الدولة«.
أما بالنسبة الى »الأمن« فهو في عهدة رئيس الجمهورية، وربما لهذا كثيرا ما تُتخذ بعض الإجراءات الأمنية، سواء أكانت مبررة أم خاطئة ومبالغا فيها، مدخلا لهجوم سياسي على الرئاسة الأولى… وغالبا ما يستخدم المستفيدون من ثورة أو إثارة الحساسيات الطائفية، والمسيحية منها بشكل خاص، هذا المدخل لبلوغ غرضهم عبر المطالبة »بتنفيذ اتفاق الطائف«، أو الذهاب الى أبعد عبر الاصرار على ضرورة تعديله!
بالمقابل فإن الاقتصاد هو من »اختصاص« رئيس الحكومة: الهجوم عليه بتجسيم الإخفاقات وتظهير حجم الدين العام وفوائد هذا الدين، والأخطاء التي نسبت الى الاتفاق مع شركتي الهاتف الخلوي، عند إبرامه، ومعها الاتهامات بالتسبب في خسارة الخزينة مئات الملايين من الدولارات، كل ذلك يصبح هجوما مباشرا على شخص رئيس الحكومة، وضمنا على موقعه التمثيلي لطائفته، فكيف إذا شُفع هذا الهجوم بتظهير الهوية الطائفية للمساهمين في الشركتين، اليوم تحديدا، وليس قبل سنة أو عند قيامهما قبل بضع سنوات؟! كأنما للرأسمال دين أو طائفة؟
أما المجلس النيابي فهو غائب أو مغيب، خصوصا ان كتله الكبرى هي »القيادة السياسية« لما يفترض أن يكون »حكومة الاتحاد الوطني«… وبالتالي فهو معطل عن القيام بدوره البديهي، من موقع الرقيب على السلطة التنفيذية ومرجع المحاسبة.
ضمن هذا المناخ الانقسامي الحاد، كيف يمكن للاعلام، إذا ما افترضنا فيه الكمال (وهذا غير واقعي وغير صحيح اصلاً) ان يلعب دوره الوطني الجامع، أو دوره الترشيدي المترفع عن المصالح والاغراض الطائفية التي تكاد تكون المحرك الواقعي لما يسمى مجازاً الحياة السياسية في لبنان؟!
ومفهوم ان الاعلام لا يستطيع حتى لو رغب! ان يشيد »حياة سياسية« في الفراغ، فكيف تمكن أو تجوز بالتالي محاسبته وكأنه هو المسؤول السياسي عن انعدام السياسة في البلاد؟!
ان الاعلام، كمنابر سياسية وكأداة تنوير ومصادر للمعلومات، معطَّل نتيجة لخواء الحياة السياسية الذي سمح بالانقسام في رأس السلطة، بكل الانعكاسات المدمرة لهذا الانقسام ونتائجها على الوقائع كمثل ان الرقم الواحد (أي رقم) صار رقمين (من أرقام الموازنة العامة إلى سعر صرف الدولار وحجم تدخل البنك المركزي لتثبيت سعر الليرة وانتهاء بعائدات الخلوي الخ…).
ان المعارك مفتوحة داخل السلطة، وبينها وبين معارضاتها الكثيرة.
لكن معارك السلطة تدور على السلطة، في حين ان هجمات المعارضة غالباً ما تنطلق من استثمار الحساسيات الطائفية… وفي الحالين معاً، وفي غياب البرامج السياسية المتعارضة أو المتصارعة لاثبات مشروعية تمثيلها »لمصالح الشعب«، يصبح مستحيلاً على الاعلام لعب دوره الطبيعي في خدمة المواطن. فحيث لا يمكن الاطمئنان إلى صحة الرقم الرسمي، لا يمكن الاطمئنان إلى سلامة الموقف الذي يستند إليه.
ليست هذه مطالعة دفاع عن الاعلام، ولكنها مضبطة اتهام بحق المراجع الرسمية والقوى السياسية، لا فرق هنا بين موال (لمن؟) ومعارض (لمن؟)؟!
ان الاعلام ضحية الفراغ السياسي، وليس ضحية الصراع السياسي.
والفراغ السياسي يصب الماء في طاحونة الطائفية.
والطائفية آفة تقضي أول ما تقضي على دور الاعلام، باعتبارها استثماراً سياسياً بين منطلقاته تزوير الأرقام والوقائع والمواقف.
والاعلام، اليوم، بين ضحايا غلبة الطائفية على السياسة في حياتنا العامة، حتى حين يتورط بعضه في اللعبة ويدّعي لنفسه دوراً فيها فيرقص كالطير مذبوحا من الألم