طلال سلمان

اعتراض من موقع ديموقراطي

من حقنا، مبدئياً، ومن واجبنا المهني ثم السياسي، أن نرفع الصوت بالاعتراض على حملة الاعتقالات الواسعة التي جرت يوم أمس الأول، وشملت في مَن شملت عشرات الشبان والشابات ممّن يصعب اتهامهم بالتآمر، والتي ما زالت حتى هذه الساعة غير مبرّرة بما يقنع الناس ويطمئنهم إلى حرياتهم وإلى سلامة نظامهم الديموقراطي، كائناً ما كان رأيهم في التنظيمين المعنيين أو في بعض قيادييهم.
قد لا نلتقي سياسياً مع الرموز القيادية في »القوات اللبنانية« أو في التيار العوني. وعلى امتداد سنوات طويلة جاوزت العشر، كانت »السفير« هدفاً يومياً لحربهم، فتناولوها بحملات تشهير قاسية، وأقفلوا في وجهها المناطق التي هيمنوا عليها طوال دهر الحروب المتعددة الرايات والجبهات والتسميات، وبينها »حرب الإلغاء« و»حرب التحرير« الخ… أكثر من ذلك: لقد منع الطرفان عبور »السفير« إلى الشمال، فقيل آنذاك »إن »السفير« جريدة صباحية في بيروت وجريدة مسائية في طرابلس«، إذ كان علينا أن نبعث بها عبر البقاع إلى عكار فلا تبلغ الفيحاء إلا قبيل المغيب.
كانت تلك ضريبة دفعتها »السفير« كما دفعها الشعب اللبناني عموماً، نتيجة انتفاء الروح الديموقراطية عند قيادة »القوات« كما عند »العماد« المهووس بالسلطة ميشال عون، ونزعة التفرد لديهما وضيق الصدر بالرأي الآخر، ورفض الحوار (حتى في ما بينهما!).
ولأننا ممّن دفع ضريبة ثقيلة للقمع الذي تعرضنا له، مع جمهور الشعب اللبناني، في ظل تحكّم هاتين القوتين اللتين أرادتا قهر إرادة الناس بقوة السلاح، فإننا نرفع الصوت بالاعتراض على الأسلوب البوليسي الذي اعتُمد مع جمهور من مناصريهما والذي غاب عنه التبرير السياسي المقنع كما غاب عنه التركيز في توجيه التهمة إلى مَن هم في المواقع القيادية من دون تلك المجموعات من الشبان والصبايا الذين يصعب اعتبارهم »متآمرين« على أمن الدولة، وإن كان يمكن في أسوأ افتراض اعتبارهم »مضللين« أو »مغرَّراً بهم« ساقتهم الحماسة أو العصبية إلى الموقع الخطأ.
لم تكن »القوات« في أي يوم رمزاً للعمل الديموقراطي في لبنان، لا بين المسيحيين خصوصاً، ولا على المستوى الوطني العام.
ولم يكن العماد عون، في أي يوم، رمزاً للحوار والعمل الشعبي والروح الديموقراطية، وهو الذي اختار المدفع مدخلاً إلى السياسة والتمسك برئاسة مغتصبة ومطعون في شرعيتها حتى خلعه المدفع الأقوى.
مع ذلك فليس مقبولاً أن يعامَل مناصرو »التيار العوني« و»القوات« بالأساليب التي اعتمدتها قيادتاهما، والتي أطالت أمد الحرب الأهلية، بل ومدتها إلى قلب الطائفة الحاضنة لكليهما فأوقعت من الضحايا المسيحيين أكثر من مجموع ما سقط في حروب ما قبل »الإلغاء«.
إن للدولة مطلق الحق في حماية نظامها من المتآمرين عليه.
لكن لذلك أصولاً قانونية، في جمهورية ديموقراطية برلمانية.
ومخالفة الأصول تحوّل »المتآمر« إلى »ضحية«، وتحول الداعية للفتنة إلى شهيد لحرية الرأي.
من حق اللبنانيين أن يطلبوا، فور عملية الدهم، حتى لا نقول قبلها، شرحاً تفصيلياً، وأن يسمعوا المبرّرات الأمنية، من مرجعيتهم السياسية التي يفترض عليها واجبها أن تغطي الجيش والأجهزة الأمنية، وأن توفر على المؤسسة العسكرية عبء الظهور بمظهر »أداة قمع« للآراء، أو أن يصبح دورها الوطني موضع نقاش بين مواطنيها، أهلها.
لقد كانت المؤسسة العسكرية على امتداد سنوات الضحية النموذجية للميليشيات عموماً ولدعاة التقسيم وأصحاب المشاريع السياسية المشبوهة بشكل خاص، ولا يستطيع قادة »القوات« أو »التيار العوني« أن يدّعوا الحرص على الجيش ووحدته ودوره الوطني فهم أبرز مَن حوّله إلى معسكرات وألوية مقتتلة.
لكن القضية المطروحة راهناً ليست المحاسبة على الماضي، بل هي تتصل كما توحي بيانات قيادة الجيش وتسريبات المصادر الأمنية بأمن البلاد والمؤسسة العسكرية تحديداً في الحاضر.
وفي غياب السلطة السياسية المسؤولة أمام الشعب والمؤسسات الديموقراطية، يصبح موقف الجيش مكشوفاً، إذ يبدو كأنه في موقع الخصم لهذه الفئة أو تلك من اللبنانيين، بينما هو المؤسسة الحامية لأمن الوطن وأمن مواطنيه، كل مواطنيه.
قد يكون بين من اعتقلوا من هو متورط في مشروع انقلابي يعتمد التحريض الطائفي ومحاولة تقسيم الضباط والعسكريين على أساس طائفي.
وقد يكون بينهم من انزلق أو أخذه الغرض إلى خدمة العدو.
وقد يكون بينهم من يشكّل تركه حراً خطراً على أمن الوطن ومواطنيه.
ولو اتبعت الأصول القانونية، فتولى المرجع السياسي الشرعي شرح القضية وتبرير الاعتقالات بالتهم الموجهة إلى المعتقلين، ولو بعناوينها العامة من دون التفصيل، في انتظار التحقيقات ونتائجها، لتبدّت المسألة في حجمها الطبيعي: مسألة أمنية قد تهدد سلامة المجتمع، وكان لا بد من تدبير احترازي يسبق التنفيذ.
.. لا سيما وكلنا يعرف بل ويكاد يختنق داخل هذا الجو المحتقن بالغرائز الطائفية والحساسيات الطائفية المستثارة لأغراض سياسية رخيصة، في ظل الخطر الإسرائيلي الذي لم يتناقص بعد التحرير بالمقاومة بل لعله قد تزايد نتيجة المواجهة الباسلة التي يخوضها أبطال الانتفاضة في فلسطين.
لقد بدا خلال الساعات القليلة الماضية، وعبر الحملات الإعلامية المنظمة، كأن الديموقراطية في لبنان هي الأخرى »غنيمة« لطائفة بالذات، أو هي تعود إليها »بالمحاصصة«.
أكثر من هذا وأخطر: بدا كأن الحكم طائفي بينما معارضاته علمانية، والحكم بوليسي بينما معارضاته هي الوكيلة الشرعية للحريات وحقوق الإنسان.
والمطلوب اليوم وليس غداً أن يعلن الحكم، كل الحكم، مطالعته السياسية حول هذه العملية الأمنية، وأن يحدد التهمة الموجهة وإلى مَن مِن بين المعتقلين، بينما هو يفرج عن المضللين أو المغرَّر بهم أو الذين أخذتهم الحماسة إلى اجتماعات عنوانها ديموقراطي بينما استهدافاتها مناقضة لشعارها.
إننا، من موقع ضحايا العسف ودكتاتورية اللون الواحد، والقمع الطائفي، نطالب الحكم بأن يتحمّل مسؤوليته ويعلن الحقيقة للناس محدداً التهمة الموجهة إلى هؤلاء الذين اعتُقلوا في ليل سرعان ما صار استثماراً مجزياً لكل من حضر السوق، فصار صعباً التمييز بين المؤمنين بالديموقراطية وبين أعدائها والمستفيدين من غيابها ليصيروا أبطالاً للطوائف.

Exit mobile version