طلال سلمان

اطلاق نار على انتفاضة من خلف

هل وصل الخوف الرسمي العربي من انتفاضة الأقصى إلى حد محاولة اغتيالها بذريعة حماية شعبها من حمام الدم الذي لن يستطيع أحد وقفه، في مواجهة شارون؟!
إن ما جرى خلال الأيام القليلة الماضية تحت عنوان »المبادرة المصرية الأردنية« والذي بلغ الحضيض في التراجع عبر ما جرى بين تل أبيب والقاهرة وأعلن فيها يكاد يكون بمثابة إطلاق نار على الانتفاضة من الخلف.
إن »الخديعة« مكشوفة بأكثر مما يمكن تمويهها، خصوصا وأن مواقف الجنرال السفاح معلنة وجارحة بل مهينة بحيث لا تنفع مهارات شريكه البارع شيمون بيريز في »تفسيرها« بغير حقيقتها، ولا في أن تقنع إعادة صياغتها بعبارات دبلوماسية منمقة في أن المرفوض قد غدا مقبولاً..
بل أن هذه »المبادرة« من شأنها إذا صحت أنباء وقف إطلاق النار أن تغري شارون وبيريز بالاندفاع في العنف إلى حده الأقصى من أجل ضمان المزيد من التنازلات العربية التي يمكنها أن تكسر ظهر الانتفاضة أو تكشفها أو توفر العذر للقيادة الفلسطينية إن هي أرادت التراجع، وتغطيها..
وما يكشفه هذا الارتباك الفاقع في موقف أصحاب »المبادرة« أن الخوف الرسمي العربي من انتفاضة الأقصى قد تخطى حجم التخوف الإسرائيلي من تداعياتها المحتملة ومن تأثيراتها غير المحدودة على صورة »الكيان« عالميا، إضافة إلى انعكاساتها المباشرة والحادة على »المجتمع« وتوجهاته السياسية، بدليل تعاظم التطرف ذي الطبيعة العنصرية إلى حده الأقصى واكتساحه الشارع والسلطة معا وإسقاطه كل مشاريع التسوية، وعودته إلى منطق القوة وحدها لحسم الصراع على الأرض والمستقبل مع الفلسطينيين في الداخل (والعرب في الخارج)!
لكأنها، من جانب إسرائيل، محاولة جديدة لفرض المعادلة ذاتها مرة أخرى: الاندفاع أكثر فأكثر مع جنون القتل فيتراجع العرب، ويسقط الفلسطينيون في وهدة الشعور بالخذلان وبأنهم مستفردون، فيصبون جام نقمتهم على التخلي العربي ويحاولون مهادنة السيف الإسرائيلي صاغرين!
في البداية، لجأ النظام العربي إلى الحيلة: قمة طارئة لدعم الانتفاضة كمحاولة للالتفاف على الغضبة العارمة من الشارع العربي، وتخدير للانتفاضة في الداخل… أطلقت وعود الدعم بمئات الملايين من الدولارات، وارتفعت المطالبة بوقف التطبيع وسحب الاعتراف أو سحب السفراء، كأضعف الإيمان، واستمهال الفعل السياسي في انتظار نتائج الانتخابات الأميركية حيث التعهدات ومشاريع الاتفاقات جاهزة في انتظار التواقيع.
أما في القمة الثانية التي ظللها شبح شارون العائد إلى السلطة ملكا في إسرائيل، فقد جاءهم العذر من واشنطن بالصواريخ على بغداد، ثم بكولن باول والأمر بفرض موضوع العراق الكويت بندا وحيدا على جدول أعمال القمة، بافتراض أن القمة الأولى قد أدت قسطها للعلى في فلسطين، وكل المطلوب تلبية المطلب الأميركي لعل واشنطن تنال من شارون العفو عن الفلسطينيين والعودة إلى التفاوض معهم ولو على بعض ما في يدهم وبعض ما كان جاهزاً على الورق للتوقيع.
* * *
إلى أين من هنا؟!
يبدو أن »المبادرة المصرية الأردنية« قد لفظت أنفاسها، تاركة لشيمون بيريز أن يعلن وفاتها.
ولقد يحدث شيء من الاضطراب داخل الصف الفلسطيني، نتيجة بلبلة ليست مرشحة لأن تدوم طويلاً في ظل الوضوح القاطع بالنار لمسلك شارون الدموي،
لكن القيادة الفلسطينية لا تملك حتى وعداً تقدمه لأهالي المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى ومئات الآلاف من المتروكين للريح في مواجهة آلة القتل الإسرائيلي، المتبطلين والبلا دخل والمفروض عليهم حصار الجوع والإذلال.
كذلك فإن محاولة الهرب من المواجهة التي يسعى إليها النظام العربي، والتي تبدت مكشوفة أمس، لن تفيده، لأن السيوف ستتقاطع عليه: من إسرائيل ومن داخل فلسطين ومن داخل الشارع العربي المقموع والمحبوس والذي سيجد طريقه لإعلان رأيه بالصوت وبالحجارة، وربما بأكثر من ذلك.
إن شارون لا يريد حلاً، لأنه لا يملك بالأصل مشروعاً سياسياً مع الفلسطينيين. إن الحل الوحيد الذي يراه هو: الأمن، والمزيد من الأمن لإسرائيل والإسرائيليين، فإذا التزم الفلسطينيون (والعرب) بتوفير هذا الأمن، ترك لهم مساحة ما بين مدفعين أو دبابتين (42$ من أراضي الضفة الغربية) لمسيرات تشييع شهدائهم، ورفع أعلامهم عليها.
هل سقطت المبادرة المصرية الأردنية في الشارع؟!
إذاً لن يكون بالإمكان إعادة ترميمها،
كما لن يكون ممكناً استمرار الفصل بين الشارع في فلسطين والشوارع العربية عموما،
والخيار قاطع في وضوحه: الاستسلام لشارون، بكل شروطه المدمرة لأية »تسوية«، ولو مهينة، أو مواجهة من يقبل مثل هذه الشروط ولو بمحاولة إعادة صياغتها وتصويرها وكأنها »حل وسط«.
والصيف سيكون حاراً جداً في كل المنطقة،
واستمرار الانتفاضة شرط وجود عربي، وليس فقط شرط نهوض سياسي.

Exit mobile version