طلال سلمان

اخوة مصطافون استحقاقات مصيرية

بدل أن يجيئنا »الأخوة المصطافون« بعشرات الألوف، وربما بمئاتها، كما بشّرتنا التقديرات شبه الرسمية، ذهب الحكم متفرقاً كالعادة في إجازة صيف قصيرة، في »بلاد الناس« النظيفة والتي تكاد تكون أرخص كلفة من لبنان، بغير أن يغيب تماماً عن مناسبة محلية لها أهميتها الخاصة في حسابات »الصراع على القمة« هي: عيد مار الياس!
أما المصطافون من الأخوة العرب، فلهم عذرهم في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على بلادنا جميعاً، وأدت بأسرع من أي تصور إلى احتلال العراق، برغم افتضاح كذبها في الذريعة الخطيرة التي برّرت بها عدوانها عبر العالم على هذا البلد العربي العظيم، وهي حكاية »أسلحة الدمار الشامل«، أما باقي الأسباب المتصلة بطغيان حاكمه الدكتاتور وولعه بالدم (العراقي أساساً) فحسابه عليها عند شعبه وليس عند »المحافظين الجدد« من أتباع »المسيحية الصهيونية« في الإدارة الأميركية..
المهم أن »موسم الصيف« لن يستطيع إنقاذ الاقتصاد اللبناني من الركود، ولن يخفف من عجز الموازنة، أو من حجم الدين العام الذي يبدو أنه سيواصل تناميه السرطاني… فضلاً عن أن ليس من مسؤولية الأخوة المصطافين تفريج الأزمة التي تتزايد حدة على مدار الساعة داخل »دست الحكم«، والتي عطلت الشهر الماضي انعقاد مجلس الوزراء، تماماً، وعطلت هذا الشهر القرار في جلساته التي انعقدت بالطلب ولم تعوّض »الصورة« بالابتسامات المغتصبة، عن الاتفاق الفعلي على المسائل الحيوية التي تؤثر على حياة الناس، فالشلل ليس حلاً.
ولأنه الصيف، بموجة الحر وتعاظم الرطوبة، فقد تفاقم الاحتقان السياسي متخطياً حدود السلطة ليصل إلى الناس، مستنفراً فيهم تحت الضيق الاقتصادي بانعكاساته الاجتماعية الخطيرة العصبيات بمختلف تلاوينها الجهوية والطائفية والمذهبية، لا سيما أن الناس يفتقدون الأساس السياسي لهذا الخلاف فوق القمة بين »حلفاء« و»شركاء مصير« يفترض أنهم يمثلون »خطاً« واحداً، لم يعد المواطن يصدق أنه واحد فعلاً عند هؤلاء المختلفين تقريباً على كل شيء.
ولأنه الصيف، بالحر والرطوبة وضيق ذات اليد، فقد تفجرت، فجأة، مجموعة من الملفات المرجأة، مما زاد من ضيق الصدر، ثم توالت الزيادة في رسوم الاشتراكات الشهرية في الهاتف (الثابت) إضافة إلى زيادة في كلفة الاتصالات الخلوية، وفي رسوم الاشتراكات الشهرية في الكهرباء، بذريعة تغطية الزيادة المرتقبة في اسعار المحروقات، وبعدها جاء الضمان الالزامي على السيارات، قبل ان تعود إلى السطح حكاية الكسارات التي رفعت اسعار »البحص« فزادت من كلفة البناء وأحدثت إضرابات »شعبية« واشتباكات داخل الحكم بمؤسساته جميعاً، إذ امتدت هذه المرة إلى العلاقة بين مجلس الوزراء ومجلس النواب الخ..
وبعدما كان الناس قد افترضوا ان ملف بنك المدينة قد طوي بتعهد مقبول من »شخص موثوق«، وأن حقوق المودعين مصانة، فوجئوا بهذا الملف يعود إلى الظهور والوقوف على باب… القضاء، مع حملة جديدة من الاتهامات والشائعات تجاوزت أصحاب العلاقة مباشرة لتمس جهات ومراجع يفترض أنها في منزلة زوجة القيصر.
ومرة أخرى اهتزت الثقة بقدرة »الجميع« على اتخاذ القرار (الصحيح طبعاً) في أي مسألة مطروحة فعلاً، أو قد »تتفجر« فجأة بالمصادفة أو بفعل فاعل يظل في الغالب الاعم مجهولاً!.
ومع ان اللبناني لم يشتهر عنه التدقيق في الأرقام، لا أرقام الدخل الوطني العام، ولا أرقام إنفاقه الخاص بالتوازي مع دخله الخاص، إلا أن اللعب »الرسمي« بالأرقام قد تفاقم إلى حد إجبار هذا اللبناني على الاهتمام.
ان الدورة الاقتصادية في البلاد معتلة ومختلة، والإفلاسات تتوالى وتتزايد عدداً وتتعاظم نوعاً، متسببة في رفع معدلات البطالة وهجرة الكفاءات لمن استطاع إليها سبيلا.
وبرغم ان هذا اللبناني نادراً ما يتوقف أمام ما يفرض عليه من ضرائب أو رسوم، إما لأنه إذا كان »صغيراً« لا يملك وسيلة جدية للاعتراض، وإما لأنه يائس سلفاً من امكان تعديل الرسم أو الضريبة بالاعتراض، وإما لأنه يفترض نفسه إذا كان »كبيراً« أو متصلا بكبير »مستثنى« بشكل أو بآخر، وإما لأنه يقرر سلفاً انه لن يدفع وله مرجع يرجع إليه فيعفيه، ولو بإخفاء المعاملة…
برغم ذلك فإن تراكم الرسوم وهي الحيلة الشرعية التي لا تستوجب قانوناً وبالتالي »معركة خطابية« في المجلس النيابي تجبر الناس على الاهتمام قد أشعر اللبناني بتناقص قدرته على الاستمرار في تعليم أبنائه، وعلى ان يعيش حياة كفاف، خصوصاً في ظل انعدام الانفاق العام، في ظل القاعدة السنيورية الشهيرة: ارجئ دفع المستحق إلى موازنة السنة التالية لتتحاشى كشف حجم العجز، وبالتالي حجم الدين العام… والغد لله، وقد يقرر فتفرج، إنه على كل شيء قدير!
فأما الأزمة السياسية فقد باتت من التقاليد الثابتة في الحياة العامة، والأمل بحلها معلق في انتظار »الاستحقاقات الكبرى«… و»الاستحقاقات« هذه كلمة أو تعبير لبناني لا وجود له في أي لغة سياسية أخرى، ولكنها عندنا تربط خبزك اليومي بالصراع الدولي وبنجاح خريطة الطريق إلى فلسطين كمجموعة متناثرة من المحميات الإسرائيلية، وكذلك بنجاح مجلس الأمن في إيجاد حلول مريحة للاحتلال الأميركي للعراق، بتداعياته جميعا.
وهكذا تجد مثلا أن سعر متر »البحص« (وهو من الأحجار الكريمة!) يتوقف على سقوط حكومة طوني بلير في بريطانيا بعد فضيحة المسكين »كيلي« الذي حاول أن يقول الحقيقة..
وأن فضيحة من نوع ما جرى في بنك المدينة وله تتوقف على حسم »القضية الدستورية« التي تعطل انعقاد مجلس الوزراء حتى لو تلاقى أطرافه جميعا في تلك القاعة التي باتت ملحقة بالمتحف، لأن شخوصها، سواء اتفقوا أو اختلفوا، يظلون بلا قرار حول الحاضر والمستقبل مثل التماثيل المحفوظة بعناية حرصا على الماضي.
كل شكوى، أو علة، أو مطلب، أو حق يتعلق أو يتصل بواحد من »الاستحقاقات المصيرية« أو بمجموعها!، ولا يتبقى عليك في غياب الحلول غير التحايل على ما يستحق عليك من فوائد الديون أو من الزيادات المتوالية في الرسوم التي لا مهرب من دفعها والتي تستهلك المزيد من دخلك المحدود، إن لم تكن من زمرة المستفيدين من نكبات الآخرين.
إنه الصيف… لكن الأخوة المصطافين لم يأتوا بالكثرة التي كنا نأمل فيها أو نتوقعها أو نريد منها أن تحسم استحقاقا واحدا من بين جميع الاستحقاقات المصيرية هو استحقاق كلفة الحياة العادية في بلد تنهشه الديون والركود الاقتصادي وأزمة الحكم على مستوى القمة!
لكم خسر الاخوة المصطافون الذين تخلفوا عن موعدهم مع العجائب اللبنانية التي كانت طرائفها تسليهم فصارت »مصائب« تهربهم وتحاصرنا وحدنا في هذا البلد الجميل!

Exit mobile version