طلال سلمان

احمد عبد المعطي حجازي لا يقبل دور “الشاهد”..

في اوائل الستينات التقيت، لأول مرة، شاعر الشباب ـ آنذاك ـ احمد عبد المعطي حجازي الذي كان شباب العرب يترنمون بقصائد ديوانه الاول “مدينة بلا قلب” وينظرون اليه على انه سيكون شاعر المرحلة والاحلام الموعودة: الوحدة والحرية والاشتراكية..

كان الشاعر الاصلع مقبلاً على الحياة، يغب منها غباً، يحب الجمال ويسعى اليه حيثما وجده (وجدها)، من دون التحسب للنتائج، مفترضاً أن الشاعر مغفورة له خطاياه بمباركة الوحي الذي منحه التميز عن سائر الخلق..

تعددت، من بعد، لقاءاتنا في القاهرة، ثم في “المنفى الاختياري” الذي انتقل اليه احمد عبد المعطي حجازي، باريس، “بدعم معنوي” من سلطة الرئيس العراقي صدام حسين.. وبعد عودته إلى القاهرة في بيته حيث اولم لي ولبعض الزملاء عشاء فاخراً طبقه الرئيسي: ملوخية بالأرانب (او بالانارب كما يقول المصريون..)

*****

ولقد ولد حجازي في 1935/6/14 في مدينة تلا بالمنوفية. ونشأ في وسط عائلة وهو الولد الوحيد فيها وترتيبه الثاني من بين 8 أخوات، ست أصغر منه وواحدة أكبر.

في العام 1952، وخلال أزمة آذار، قاد مظاهرة في شبين الكوم بالمنوفية، وبسببها دخل سجن قرة ميدان حيث قضى شهراً وكان الكاتب يوسف ادريس موجوداً في زنزانة مجاورة.

ـ عمل في الصحافة من عام 1956 إلى نيسان 1959. وعندما حصلت الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958 كان من أشد المتحمسين لها. وذهب في العام 1959 ليلقى قصيدة في احتفال ذكرى الشهيد عدنان المالكي. وقد عرض عليه في أثناء وجوده بدمشق العمل في صحيفة “الجماهير” التي كان يرأس تحريرها الدكتور جمال الأتاسي، فقبل.

ـ في العام 1959 عاد إلى القاهرة ليعمل محرراً في مجلة “روز اليوسف” وفي جريدة “الأهرام” ومجلة “إبداع” وترأس تحرير مجلة القاهرة التي تُعنى بالإبداع الأدبي.

ـ بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وتحديداً في العام 1971، جُرد من كل المناصب التي احتلها في مجلة “روز اليوسف” بعد أن أصبح في أواخر الستينات مديراً لتحرير الشؤون الثقافية وأصبح محرراً عادياً.

ـ في العام 1973 طرد وعدد من زملائه من مجلة “روز اليوسف” وكان عددهم 180 كاتباً، ومنع عليهم زيارة المجلة وأحيل بعضهم إلى التقاعد والبعض الآخر إلى وظائف في مؤسسات أخرى مثل مصلحة الاستعلامات وسواها. وكان نصيبه أن يحال إلى المعاش والتقاعد والسبب الرئيسي الذي أدى إلى طرده مع زملائه إنه كان يطالب بقانون يسمى بـ”شرف المهنة”، كما كان يطالب برفع الرقابة عن الصحف. بالإضافة إلى ما كانت تعرفه السلطة عنه من إنه كان من المتحمسين لجمال عبد الناصر والناصرية آنذاك.

سافر بعدها إلى باريس كمراسل لمجلة روز اليوسف، والتحق بدروس اللغة الفرنسية التي كانت تنظمها جامعة السوربون.

ـ كان له دور تأسيسي في ريادة الشعر الحديث مع رفيقه صلاح عبد الصبور. وفي مجلة “إبداع” (مجلة شهرية أدبية مخصصة للإبداع).

ـ بدأ بنشر أولى قصائده في مجلة “الآداب” البيروتية أواخر الخمسينات وأصدر مجموعته الأولى عام 1958 وعنوانها “مدينة بلا قلب”.

ـ جرت ترجمة لعدد من قصائده إلى الفرنسية وقام بترجمتها: جمال الدين الشيخ، وجاك بيرك، واندريه مبكل، وصلاح ستيتية، ومترجمون آخرون.

ـ نال جائزة الدولة التقديرية سنة 1998.

ـ واجه حكماً قضائياً بيع فيه أثاث بيته في المزاد العلني جراء القضية التي رفعها عليه الداعية المصري الشيخ يوسف البدري، والمتخصص في اللجوء للقضاء اتهاماً لأشخاص يعتبرهم خارجين عن الدين ومخالفين للعادات والتقاليد.

– اعترف بأنه تراجع عن جميع مواقفه السياسية وأفكاره التي آمن بها طيلة السنوات الماضية، ولعل أغرب تلك المواقف التي تراجع عنها موقفه من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يؤيد ويؤمن به، وبكل تصرفاته إلا أنه أعلن أن عبد الناصر لم يكن إلا ضابطاً أسس لشرعية الانقلابات في عالمنا العربي.

*****

من الذكريات الشخصية في بداية العلاقة مع “الشاعر الاصلع” كما كنا نسميه، هذه الحكاية:

ذات يوم التقيت في مؤتمر ثقافي صبية عراقية تمت بصلة قربى إلى “الرفيق فهد”، القائد الشيوعي العراقي المعروف. وكانت “ماريا” فاتنة بحضورها، متميزة بثقافتها السياسية وتذوقها الشعر.. وهي قد جاءت إلى القاهرة، من بيروت، ضمن وفد سياحي للاستمتاع بالتراث الفاطمي في مختلف جنبات المدينة، ولا سيما في “الفسطاط” التي كانت محط رحال رجال الفتح العربي بقيادة عمرو بن العاص..

في اليوم التالي، تلاقينا على موعد في احد مقاهي وسط القاهرة، تصادف أن جاء اليه، بعد وقت، شاعرنا الكبير احمد عبد المعطي حجازي..

كانت خطتنا أن نهرب إلى أي مكان يتيسر لنا أن نجلس فيه لنتحادث، ثم نتهامس، قبل الذهاب معاً لنمضي السهرة مع بعض الاصدقاء. ولقد اخترنا أن نذهب، بداية، إلى “الاهرامات”.. فأصر حجازي على مرافقتنا، اقله كدليل سياحي يعرف تاريخ البلاد منذ الفرعون الاول وحتى اليوم.

لم تجدِ محاولاتنا للتملص منه، بل انه بادر إلى ايقاف سيارة اجرة لنقلنا إلى منطقة الهرم، وتصدر المقعد الامامي وانطلق يشرح لنا، ونحن في شغل شاغل عنه..

هناك تجولنا بين تمثال “ابو الهول” والاهرامات، وحجازي يشرح ونحن لا نسمع، بل نبحث عن طريق للهرب.. حتى وجدنا انفسنا عند جرف عظيم من الرمال، فاندفعنا اليه واخذنا نتدحرج فوق رماله، لنفاجأ بحجازي يتدحرج هو الآخر خلفنا، ونحن لا نملك أن نتوقف الا عند طرف السطح..

بعد حين، وصل الينا حجازي حيث نحن وقد غرقنا في احلامنا..

صعدنا ـ بجهد جهيد ـ إلى حيث كنا، وجاء التاكسي فطلبنا إلى سائقه أن يذهب بنا إلى عنوان بيت حجازي، متجاهلين صيحات اعتراضه..

وعندما انتهت رحلتنا المشتركة التفت اليه قائلاً: عندك موضوعات يمكن أن تسكبها في ديوانك الجديد!

*****

ظل احمد عبد المعطي حجازي يكتب الشعر حتى انهكه، فتحول إلى الكتابة الأدبية ـ السياسية في “اهرام الثقافة”، من دون أن يتوقف عن المشاركة في المؤتمرات الثقافية، وفي مهرجانات الشعر حيثما عقدت..

لقد حاز حجازي مرتبة مميزة بين شعراء عصره، وان ظلت المنافسة قائمة بينه وبين الراحل صلاح عبد الصبور، حتى وفاته.. مع أن شعر كل منهما يختلف، شكلاً ومضموناً عن شعر الآخر، حتى حين تجمع بينهما المناسبة وجمهور المعجبين.

ولقد ظللت على علاقة ود بحجازي، وشاركنا معاً في بعض المناسبات ذات الطابع القومي، وان كنت قد لاحظت أن قريحة حجازي قدا اصابها الضعف.. وربما كان السن هو ابرز الاسباب، فضلاً عن تعذر صحبة الحسناوات!..

 

 

 

Exit mobile version