طلال سلمان

اجتياح لاستيلاد الفتنة؟!

للبيوت الجنوبية ملامح الشهداء،

للبيوت الجنوبية المتكئة في انكسارها على أرضها الصلبة شميم الشهادة.

للشهادة عطر زهر الليمون المضمخ بنجيع البيوت التي افتدت أصحابها فغابوا وما غادرتهم.

للبيوت الجنوبية صورة الخيول المنكسة رؤوسها حزناً وليس انكساراً، فهي إذ تفتقد فرسانها تغرز أقدامها في أعماق التراب وتصير سندياناً وهي تواجه عاصفة الشر الإسرائيلي بينما عيونها تخترق حجب الخرافات التوراتية ودخان الحرائق الاستيطانية لترشد أهلها الذين لا بد سيعودون.

للبيوت الجنوبية مهابة المعبود لا أماكن العبادة، فليست التراتيل بأعمق أثراً من هسيس الدم النازف، وليس التوشيع أغنى نغماً من صوت ارتطام المستحيل بإرادة الحياة التي احترفت إسقاط المستحيل!

هي ليست المرة الأولى. هي ليست المرة الأخيرة. الفارق في الحجم فقط، عدد المدافع لا يغير طبيعة الجريمة، وكون الطائرات أحدث وصواريخها أضخم فهذا يزيد من مساحة العداء ولا يبدل صورة العدو.

هي ليست المرة الأولى تحشر فيها الأحلام والأمنيات والذكريات في الشاحنة الصغيرة، ويتحرك الموكب الموشح بالدمع المختنق الصوت بالحنق والمختنق القلب بالعجز، وهو يغادر المستقبل إلى الماضي المتكررة أيامه السوداء بغير نهاية!

وهي ليست المرة الأولى يتمزق الوطن إلى “جهات”، فإذا الجنوب المنسوف والمدمر يستشعر قدراً من الغربة يتعاظم كلما طرده القصف في اتجاه “الشمال”.

وهي ليست المرة الأولى تفتقد فيها “الجهاد” دولة قادرة تظل الحاضنة والراعية والضامنة لسلامتنا جميعاً، لا تحابي “جهة” على حساب أخرى، ولا تزور عن “جهة” خوفاً من تأثيراتها لو نجحت على ميزان القوى السائد!

ليس الجرح الأول، ليس الاستشهاد الأول، ليست الهجرة الأولى إلى “الشمال”… والشمال بعيد بعيد، وقد يكون بارداً كالقطب… خصوصاً وإنه مثقل “بهمومه” من قبل أن يجيئوا، فكيف وهم يكتسحونه الآن وقد شحذ الغضب كرامتهم الجريح؟!

لعل بعض من في “الشمال” يخاف أن يحاسبه هؤلاء المقتلعون من أرضهم في الجنوب، والذين تركوا وحيدين في مواجهة إعصار الموت على امتداد دهر الهزيمة؟!

الكل سيتهم الكل… ثم تتجمع الاتهامات قنابل موقوتة في وجه الدولة وعبر حكمها الذي لم ينجح أبداً في توكيد وحدته: لماذا تخليت عني؟ لماذا لم تهتم بأن تبني لي ملجأ أو مستشفى أو قوة تحميني؟! أما بيتي فقد بنيته ألف مرة، ولسوف أبنيه ألف مرة أيضاً… ولكن من يحميني وأنا أبنيه ثم أعيد بناءه، ثم أعيد إعادة بنائه طالما استطعت الوقوف على قدمي؟!

الكل سيتهم الكل: أنتم أردتم المفاوضات ونحن لم نردها؟ فماذا جنينا من هذه المفاوضات العاقر غير هذا الاجتياح بالتدمير والتهجير؟!

تم غير توفير الذريعة لهذا الاجتياح، بقصر نظركم وعدم أخذ كل التحولات الدولية والبؤس العربي والارتباك الداخلي بعين الاعتبار؟!

-في قعر الهزيمة ليس أسهل من الهرب إلى الاقتتال، وليس أكثر من “أسبابه الموجبة” وحيثياته المقنعة لمن يريد الاقتناع بنقل الإدانة من العدو الواحد إلى الأخ الشقيق.

من ذلك “الحزب” الذي تطارده الأساطيل على امتداد الجنوب والبقاع وصولاً إلى طرابلس الشامل ومداخل بيروت؟!

لكأنما تريد الولايات المتحدة الأميركية أن تنسّب اللبنانيين جميعاً إلى هذا الحزب، ربما لكي تثبت صحة اتهامها للبنانيين جميعاً بالإرهاب!

… وأكثر ما يسعد هذا الحزب أن يشرّف باعتباره رمز المقاومة ورجلها وفارسها الوحيد.

ولكأنما تريد إسرائيل تغطية جريمتها ضد بعض لبنان بجريمة أبشع وأكمل ضد شعب لبنان كله وضد دولة قيد التأسيس!

لكأنما تريد تغطية الجريمة بالفتنة: فـ “الحزب” يصير الجنوب، ويخيّر الجنوبي بين أن يكون “الحزب” أي “العدو” أو أن يكون عنصراً في “حرس الحدود” الإسرائيلي، أي عدواً لذاته ولوطنه ولأمته جميعاً؟!

إن ما تسعى إليه إسرائيل هو أن تجر الدولة إلى صدام مع شعبها: تبدأ الفتنة عبر تزكية الحساسيات الجهوية والتنظيمية ثم الطائفية والمذهبية.

وتنتهي حين يتم توريط الجيش فيتهدم كل ما شرع في بنائه عبر السنوات القليلة الماضية.

إنها تقصف في الجنوب لكي تستولد ردود فعل من طبيعة محددة في بيروت وفي الجبل وفي الشمال والبقاع.

إنها تحاول أن تضرب وحدة اللبنانيين وإجماعهم الذي تطلب معجزة لكي يتكون.

فالأخطر من الطيران الحربي الإسرائيلي أن ينجح العدو في تزوير طبيعة المواجهة، فيجعل السبب في الداخل، بدل أن تظل مسؤولية المذبحة محددة تماماً ومرتبطة بالعدو الإسرائيلي بغير شريك.

لكأنها رحلت الجنوب وهجرته لكي يتشظى في بيروت وعبرها فتجرح شظاياه الجميع، حكاماً وقوى سياسية ومراجع عسكرية وعائلات روحية.

وإذا ما نجحت إسرائيل في ضرب اللبنانيين بعضهم بالبعض الآخر فلسوف تتهاوى الدولة قيد التأسيس عبر ارتطام الخيبة بالإحباط والشعور بالخذلان بافتقاد المركز الممتاز.

الأخطر أن تنفجر الأحقاد التي لما تنطفئ والمتخلفة من دهر الحرب فيتهم الكل الكل بالتقصير أو بالتواطؤ أو بعدم المبالاة واستغلال نكبة أخوته ليحقق المزيد من المكاسب.

ووسط هذا المسرح الملغم بالأحقاد العنقودية يكفي خطأ واحد من شرطي لكي تنفجر الغرائز في وجه الدولة، فإذا الحرب هنا شاملة وإذا السلام شامل في إسرائيل!

Exit mobile version