عشرون عاما؟!
إنه عمر ثانٍ، مع أن إبراهيم مرزوق لم يعش عمره الأول كاملا، وما زال يهوم في منطقة «الجامعة العربية»، ماسحا «الطريق الجديدة» بدءا من «سينما سلوى»، الى «دار الأيتام»، وكورنيش المزرعة وصولاً الى «صخرة قدورة» في عين المريسة، برموش عينيه المفتوحتين دائما على البشرى وعلى الأمل وعلى الوعد بغد جديد.
إبراهيم مرزوق، يا لذلك المزيج الهائل الغنى من بيروت والقاهرة ودمشق وحلب وبغداد والجزائر والأندلس، من الموسيقى والألوان والنشوة بالجمال، من الأصالة والحداثة والابداع الذي لا يبلغ أكمل تجلياته إلا إذا جمعهما معد، فإذا الغد يستبطن الأمس ويشكل امتدادا طبيعيا له، تماما كما أن الحفيد هو امتداد للجد حتى لو بدا أكمل وأغنى بما أضاف بالعلم وما وفرته الحياة من أسباب التقدم التي لا تشترط إلغاء الوجدان بل هي تحرضه وتفتح له الأبواب المسحورة على دنيا المعرفة فيزداد توهجا ويعطي الأمتع والأكمل.
ü ü ü
على باب الفرن في محلة «أبي شاكر من تحت» تناثر إبراهيم مرزوق بقعا حمراء قانية، مقدمة أكمل لوحة رسمها: الأرغفة اللاهثة، والصف الطويل من الفقراء الآتين مع الصبح لكي يوفروا الخبز لأطفالهم قبل أن يشتد القصف، والباعة خلف عربات الخضرة يتلطون في الزوايا خوفا، وأزيز رصاص عشوائي،
وشيء من الصقيع يزيده الخوف وينشره في المفاصل.
لم يكن إبراهيم خائفا. كان متعجلاً فقط، لأنه يريد أن يعود قبل أن يفيق الصغار، فيستكمل مع «أم أحمد» إعداد الإفطار، ثم يجلسهم من حوله و«أحمد» في حضنه، ويروي لهم الطرائف مهوّند عليهم شأن «الحرب» مبشرد بأنها لن تطول وأن من قلبها ستشرق شمس الغد البهي.
بالتأكيد فإن إبراهيم كان ساعة سقوط القذيفة يروي لمن حوله آخر نكتة، أو لعله كان يدندن بلحن لمحمد عثمان أو للشيخ سيد درويش أو ربما أخذ صوت الأذان الى الشيخ زكريا أحمد والست، فاندفع يقص بعض لطائف بيرم التونسي في منفاه أو في موطنه المختار في «أم الدنيا» العربية.
ü ü ü
هل يسمح لي ببعض الكلام الحميم؟!
لم أعرف صورة لبيروت أجمل من تلك التي كان يقدمها، بشخصه أولاً، بسلوكه ثم بإبداعاته، إبراهيم مرزوق.
ولأنني واحد من الذين لم يصدقوا أن إبراهيم مرزوق قد غاب، فلقد ظللت أرفض الكتابة عنه حتى لا تبدو وكأنها مجاملة أو محاباة أو مسامرة عاطفية مع واحد من أصدقاء العمر.
وأظن أن كثيرين غيري امتنعوا عن الكتابة عنه، حتى لا يجيء الكلام مدموغا بعاطفة الرثاء، فيظلم الفنان المبدع مرتين.
ها نحن الآن نكتشف إبراهيم مرزوق،
لكن إبراهيم الرسام ليس هو كل إبراهيم مرزوق، على تميز نتاجه كرسام.
إن إبراهيم الانسان هو الأعظم.
والفنان في إبراهيم مرزوق كان يتسع، إضافة الى الرسام، لهاوي الغناء وعاشق الابداع الموسيقي، والمحرض كل من يلقاهم على اكتشاف ذاته والتعرف الى الموهبة الكامنة فيه.
ومؤكد أن إبراهيم مرزوق قد حرض فنجح في إقناع أبناء دفعته بأن يعملوا بمزيد من الجد، وأن يتعبوا أكثر على استكمال نتاجهم: من حسين ماضي الى موسى طيبا، ومن الراحل حسين بدر الدين الى مصطفى حيدر وإلى حسن الجوني، وليد عيد ومحمد قدورة، بل هو قد أصاب بعدواه بعض أساتذته فجعلهم ينشطون فيجددون ويتجددون.
كذلك نجح إبراهيم مرزوق في بلورة الفنان في نبيه الخطيب، وفي استنقاذ المطرب في حسين الخطيب (أبو علي)، وفي دفعهما الى مزيد من العمل والجهد بعد تركيز خطواتهما على طريق العلم، مؤكدا ان التراث فن عريق وانه يحتاج الى تأصيله بالدراسة والسهر والتعب، وأنه ليس مجرد نقل وانتقال، وأن تطويره إنما يتم من داخله وليس من الخارج، وان الانسان هو الفنان الأعظم، أما الآلات فتبقى آلات مهما تقدمت صناعتها وأضيف إليها ما يعزز قدرتها على الأداء.
وسيطل إبراهيم مرزوق بعد غيابه بسنوات عبر فرقة نبيه الخطيب للتراث بوصفه «المؤسس» و«المرشد» و«الموجه» وكذلك الجمهور.
ü ü ü
ليس الفن منقطعا عن السياسة. الفن هو ذروة التعبير عن الانسان بأفكاره ومطامحه وأحلامه وتطلعه الى تحقيق ذاته، فرديا ووطنيا ثم إنسانيا في أكمل صورة تليق بكرامته كأعظم مخلوق.
وإبراهيم مرزوق كان نموذجا لمثل هذا الفنان ـ الانسان ـ السياسي: فالابداع هو ذروة الاكتمال وليس تيها أو شرودا مع الموضة أو اغترابا يقطع مع الأرض وأهلها والتاريخ والموروث الوجداني.
لذلك كان إبراهيم مرزوق يؤصل إبداعه، ويحرض الآخرين على تأصيل إبداعهم بربطه بالأرض وناسها والتاريخ. لا يجيء الابداع من فراغ، ولا يذهب الى الجميع من دون تمييز فليس عيبا ان يكون الشرقي شرقيا، ولا تنقص شرقيته من حظوظه في العالمية، بل العكس هو الصحيح.
وإبراهيم مرزوق الذي درس في روما كما درس في الهند، لم ينس لحظة انه ابن بيروت، ابن دنيا عربية غنية بوجدانها، غنية بقدرتها على العطاء، وقد أضاف ما اكتسب إلى تراثه فأغناه وصار أقدر على التعبير من دون أن يهاجر إلى الهجانة بذريعة التطور والحداثة.
ولقد ظل «الموقف» هو الأصل في النتاج المبدع،
ولذلك يعيش إبراهيم مرزوق ويدخل في نسيج الغد الذي لم يتسنّ له أن يراه، وإن كان قد أسهم في رسمه… خصوصا أنه كثيرا ما غناه بصوت محمد عثمان، أو عبده الحامولي، أو أم كلثوم، أو محمد عبد الوهاب، أو وديع الصافي أو محمد عبد المطلب أو صباح فخري أو ناظم الغزالي أو… أبي علي الخطيب، الذي ما زال ينتظر على قارعة الطرب من يدخل به إلى محرابه ليبقى فيه.
منح الصلح والصحافة
يتيمز منح الصلح بالجمع بين الغنى في الأفكار والغنى في الذكريات والغنى في المعلومات. انه أحد قلائل «العارفين». وهو يكاد يعرف في كل ما يتصل بالعمل العام: بالثقافة بفنونها وإبداعاتها المختلفة، بالعقائد وتطبيقاتها، الناجح منها والخائب، وبالسياسة والسياسيين سواء ما له الطابع القومي العام أو الطابع الوطني وصولاً الى ذاك المبتدع خدمة للكيان بجذوره الطائفية.
ومنح الصلح يكاد يكون الصحافي الأول في لبنان، وأحد الأوائل من بين الصحافيين العرب الكبار.
فهو ليس فقط بين أوسعهم ثقافة ومعرفة تفصيلية، بل هو أيضا بين أغزرهم إنتاجا. وندر أن خلت صحيفة أو مجلة عربية من مساهمة لمنح الصلح. وفي حالات عديدة لعب منح الصلح في بعض المطبوعا أدوارا أهم من تلك التي لعبها رئيس التحرير أو مدير التحرير أو ربما مجموع المحررين.
من هنا فشهادة منح الصلح في الصحف والصحافيين في لبنان خاصة، وفي الوطن العربي عموما، تجيء أقرب الى «حكم التاريخ»، متى قرر أن يقولها أو يكتبها كاملة، إذ غالبا ما يلجأ الى التلميح والإيماء والاشارة السريعة، أو إعلان نصف الحقيقة تاركا لأصحاب العلاقة الفسحة الكافية للتعديل أو التصحيح، وسبحان من له الكمال وحده.
مساء يوم الجمعة الماضي، وبقرار واضح، قدم منح الصلح واحدة من أهم المطالعات التاريخية حول الصحافة اللبنانية ودورها العربي.
كانت المناسبة تلك الندوة التي نظمها نقيب الصحافة محمد بعلبكي لمناسبة صدور الكتاب ـ المجلد: «سر المهنة… وأسرار أخرى» الذي أصدرته «دار النهار للنشر»، وفيه حكاية غسان تويني مع «النهار»، والى جانبها حكاية الصحافة مع السياسة في لبنان، أقله من وجهة نظر غسان تويني ومن خلال استعراض تفصيلي لدور «النهار» منذ أن أصدرها جبران تويني (الأب) وحتى لحظة تسليمها الى جبران الحفيد… أي حقبة غسان تويني، وهي أغنى تلك الحقب إطلاقا.
لقد تجاوز منح الصلح ذاته في هذه المطالعة ـ الوثيقة.
لقد قال كامل رأيه، وحدد موقفه بوضوح. لم يحجب الاستدراك الذي تعوّد أن يسمعه منه أصحابه بعد فقرة المديح الأولى، والذي يستهله عادة بتعبير «ولكن» أو «إنما»،
كان التقييم موضوعيا، دقيقا وشاملاً.
وكانت الأحكام، أو مشاريع الأحكام، التي أعدها منح الصلح، تليق باللحظة التاريخية التي نعيش، وبالمناسبة، وبالدار التي احتضنها.
مطالعة منح الصلح مرجع ضروري سيعود إليه بعد اليوم كل دارس للصحافة في لبنان، ولدورها في خدمة قضية الحريات والديموقراطية السياسية في لبنان كما في سائر أرجاء الوطن العربي.
تحية لمنح الصلح الذي يعرف تماما متى وكيف وأين يتحول من شاهد الى قاض له بعض وقار التاريخ.
جوزف حرب: شاعر القصيدة الواحدة
الشاعر قصيدة واحدة عند جوزف حرب.
لكأنه ولد يكتب الشعر، وحدّد لنفسه مهمة أن يظل يكتبه حتى يفرغ من قلمه الحبر الذي يفصِّل بمقصه قمصاند للصبايا البيض.
لكأنه يكتب بلا توقف. لكأنه لا يريد أن يغادر أي متردم، لكأنه يريد أن يقول كل شيء دفعة واحدة وفي جملة واحدة قد تمتد ديواند أو ديوانين أو ثلاثة دواوين، لا يهم العدد، المهم اكتمال المعنى الذي يحتاج دائمد الى المزيد من «الصبايا البيض» ومن «مقص الحبر» ليخلقها قصائد.
جوزف حرب يضيع خارج الشعر. انه يصبح متبطلاً متفرغد للتدخين ولمضغ الأخيلة التي ستتحول إلى رؤى فإلى صور، فإلى موسيقى متدفقة، تنساب هادئة رقراقة في البدايات، ثم تهدر وهي تندفع في اتجاه الشلال المقلوب الذي يشعرك بأن النهر يصعد إلى فوق ولا ينحدر نزولاً.
ولأن جوزف حرب «جنوبي»، ولأنه يغسل وجهه بالتراب كل صباح، ويحتفظ بكمشة منه ليعطر الغرف التي يدخلها، فهو يجد في كل لحظة ما يضيفه الى الرعشة التي تستعصي على الاكتمال.
وجوزف حرب دائم الترحال بين «الجاهلية» ومعلقاتها وبين الإيقاعات الجديدة: تأخذه النشوة باللغة الى الجزالة في اللفظ والمتانة في السبك، ثم تهف نفسه الى الأداء البسيط والمباشر ذي النغمات السريعة والقصيرة الصدى.
لكن القصيدة مفتوحة دائمد على الهواجس التي تتجاوز النبوءة بالقلق الشائك، ولذا فهي تبحث باستمرار عن خاتمة، لا هو يريد إيجادها، ولا هي تتبرع بالحضور واعتراض مجرى «العاصي».
مرات، يقرر جوزف حرب أن يشطر بعض أبيات القصيدة الواحدة، فإذا بين يديك ديوان «شعر بالمحكي» كالذي أصدره مؤخرد تحت عنوان «مقص الحبر» في ثلاثمئة وعشرين صفحة صقيلة مزينة بلوحات للرسام فارس غصوب.
العامية اللبنانية، أو المحكية، تسمع ولا تقرأ.
إن القراءة تفضح الحطام الذي يحاول عبثا أن يملأ قوام المعنى.
أما السماع فأمر آخر، لأن الموسيقى تستعيد موقعها وتملأ بجرسها ما تقصر عنه الحروف المدغومة أو المشذبة أو الملوية حسب أصولها اللغوية أو التأثيرات البيئية على نطقها ومخارج اللفظ.
«مقص الحبر» حيلة، مجرد حيلة، يلجأ إليها جوزف حرب ليتنفس ملء رئتيه وهو يهم بإضافة أبيات جديدة الى القصيدة ـ النهر التي وهبها عمره مجالاً للاكتمال. و«الشعر المحكي» في هذا الديوان ليس إلا شطورد من بيت واحد في القصيدة التي لا تكتمل إلا بصوت جوزف حرب ونبرته التي يضج في ثناياها عنترة والمتنبي، طرفة بن العبد والحطيئة وأبو تمام وقبيلة من شعراء الفخر والحماسة والمأساة التي تجرجر نفسها داخل الماضي والحاضر، والتي يريد جوزف حرب أو يتمنى أن يكون بيتها الأخير بشارة بالمستقبل.
لكن الأفراح لا تكون فردية،
ولذا سيظل جوزف حرب مرحبد بيته الأخير حتى تصدق النبوءة وتطل الخيوط الأولى من فجر جديد.
وهو ينتظر الفجر الجديد في الجنوب ومنه.