يأخذني الزهو كلما سمعت أو قرأت عن تكريم لإميلي نصر الله، أو تيسّر لي أن أسافر مستمتعاً مع أثر جديد من أعمالها الروائية الممتازة.
وسر سعادتي أنني أغبط إميلي نصر الله على نجاتها من مرض الصحافة العضال.
لقد نجت بنفسها وبموهبتها قبل أن يستغرقها العمل الصحافي فيضيّعها بين الخبر المثير والتصريح الخطير، والتحليل الدقيق والدراسة الموثقة، والتعليق الذي يفش الخلق.
وطوال ثلاثة وثلاثين عاماً من الصداقة والود والمتابعة واللقاءات المتباعدة، زماناً ومكاناً، لم يغادرني الإحساس بالمفاجأة والانبهار بقدرة هذه المبدعة على تحويل عاديات الأيام إلى فن جميل وإلى أدب حقيقي بطله الأول والدائم هو الإنسان… هذا العالم الهائل الاتساع والتشابك من العواطف والأحلام والأوهام، هذا الذي يتذبذب دائماً على الحافة بين سمو الآلهة وبين خبث الأبالسة ومكائدهم التي لا تنتهي.
هذه الفلاحة بنت الكفير تجوب الدنيا بقافها المتقلقلة، وجنوبيتها اللبنانية الفلسطينية السورية التي تكاملت في القاهرة وفي وادي النطرون، على طريق إسكندرية الصحراوي، ثم تعود من حيث بدأت الرحلة وقد اكتنزت تجربة: إلى الكفير وسفوح جبل الشيخ، وأولئك الفلاحين البسطاء الذين أخذتهم الحاجة إلى المهاجر وبقيت أرضهم تنتظرهم ولا تنساهم بينما هم ينسلون منها ليتوهوا وليتركوها تغرق في بحر العزلة واليتم وافتقاد الجدوى.
ونلتقي مجدداً، فألمح في العينين العميقتين أطياف أبطال جدد، يخرجون من الذاكرة، أو يدخلون من الملتلقى، فتداريهم بسرعة عن عيون الآخرين، تاركة لعقلها أن يعمل على استنطاقهم، ولذاكرتها أن تعيد الربط بين السبب والنتيجة، بين العاطفة والحاجة، بين الأرض والناس، فإذا نحن أمام رواية جديدة تضيف إلى سابقاتها وتمهد للآتيات بعدها، والتي تنهال كشلال من الدعة واليقين والإتقان.
لا أعرف إن كانت إميلي تحب ”شغل الإبرة”.
لكنها في رواياتها تمارس فن التطريز الذي طالما اشتهرت به النسوة في القرى البعيدة، مثل الكفير.
ونحن مع كل رواية يتملكنا الإحساس بأن ثمة صفحات ناقصة، ويكون علينا أن ننتظر المولود الجديد، بينما أحفاد إميلي وفيليب يدخلون السباق مع إبداعاتها فلا يشغلها هذا عن ذاك وتستمر تعطي ولا تمل من العطاء.
تحية لبنت الكفير المبدعة.
إنها شهادة لجيلنا، نحن الذين شقينا بالصحافة ومتاهاتها الكثيرة التي قد تمتع الناس، وقد تفيدهم، ولكنها تكلفنا أن نكسر أقلامنا الأصلية لكي نستطيع أن نكتب ما يعيش فقط لكي يقرأه المتعجل.
وتبقى الكلمات، الصور، الأفكار، الرؤى، الأخيلة، وحشد الأبطال المفترضين، وأدوارهم وحواراتهم التي تضج بها الرؤوس، حبيسة خيالنا المكدود الذي يحتله ”الأقطاب” التافهون أصحاب الألقاب الفخيمة والإنجازات السقيمة، وبين أبرزها تحويلنا إلى كتبة في باب السلطان… ولو من مقاعد ”المعارضين”.