صعبة هي الكتابة عن محسن ابراهيم بقدر ما هي مغرية..
فهذا “السيد” العاملي المتحدر من بلدة “انصار” قضاء النبطية في جبل عامل قد شق طريقه في قلب الصعوبة، إلى “الاممية الاشتراكية” عبر عروبة جمال عبد الناصر، وحركة القوميين العرب بقيادة “الحكيم” جورج حبش ومعه رفيقه بطل المغامرات الجوية والعمليات الفدائية النوعية. الدكتور وديع حداد ومثله “فلسطيني” و”مسيحي”.. ومن خريجي الجامعة الاميركية في بيروت.
الكل كانوا ابناء “النكبة”، عبر اقامة الكيان الاسرائيلي فوق الارض الفلسطينية.. والكل وجدوا في جمال عبد الناصر، الضابط المصري المقاتل في فلسطين (حتى هدنة الهزيمة) القائد المرتجى للأمة البلا رأس، ارضها بين الانكليز والفرنسيين، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي ورثتها الولايات المتحدة الاميركية، فضمنت اقتطاع بعض الارض الفلسطينية لإقامة الكيان الصهيوني (اسرائيل)، بذريعة التعويض على اليهود “الغبن التاريخي” اللاحق بهم، ولا سيما على أيدي الحكم النازي بقيادة الفوهرر هتلر في المانيا.
وعندما تولى جمال عبد الناصر قيادة مصر، عبر تخطيطه الناجح، عبر تنظيم “الضباط الاحرار” للقيام بثورة 23 يوليو (تموز) 1952، رأى الشباب العربي في هذه الحركة عنوانا لانتفاضة عربية شاملة تستعيد امجاد التاريخ وتحرر الارض المحتلة من “المحيط الهادر إلى الخليج لثائر” بقيادة “البطل ” الذي جاء في موعده تماما: بعد اربع سنوات من الهزيمة، وبعد تجربته الشخصية في ميدان فلسطين، كمقاتل خذلته قيادته عبر تزويده بالأسلحة الفاسدة التي قتلت الجنود الذين حملوها في مواجهة جيش الاحتلال الاسرائيلي.. وهو جيش أنشئ عبر حرب عصابات طويلة قادتها منظمتا “شتيرن” و”الهاغاناه” تحت رعاية بريطانيا التي كانت تحتل فلسطين وبمدد عسكري مفتوح تسابقت لتقديمه الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي وبريطانيا وفرنسا.. بذريعة التعويض على يهود اوروبا الذين اضطهدتهم النازية الالمانية بقيادة ادولف هتلر، قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها.. ولذلك وصل “المتطوعون” اليهود إلى فلسطين جاهزين للقتال ضد اهلها العرب، تنفيذاً “لوعد” كان قد اعطاه وزير خارجية بريطانيا اللورد بلفور، لاحد مؤسسي الحركة الصهيونية.. هيرتزل، وهو “وعد” رفض أن يعطيه السلطان العثماني عبد الحميد لهرتزل نفسه بذريعة “لا اريد أن يصيبني في فلسطين ما اصابني في لبنان”.
ولدت نكبة فلسطين، اذن، وهزيمة العرب في دحر الاجتياح الاسرائيلي المعزز دوليا، شعوراً عارما بالانكسار وغضبة مضربة، وخرجت الجماهير المنكوبة في فلسطين تستقبل طوابير اللاجئين الذين توزعوا بين لبنان وسوريا وامارة شرقي الاردن، وقطاع غزة في فلسطين الذي كان تحت الوصاية المصرية منذ هزيمة 1948… وتحفظ الذاكرة العربية صوراً للملك فاروق الاول، ملك مصر والسودان (قبل أن يخرج السودان من ولائه لهذا العرش) وهو يستعرض القوات المصرية التي اوفدها لمواجهة المشروع الاسرائيلي فلما حاقت بها الهزيمة عادت إلى القاهرة لتخلعه، مندفعة إلى انهاء الحكم الملكي واقامة الجمهورية في 23 تموز (يوليه) 1952.
لم تتأخر الثورة في خلع الملك فاروق، واقامة مجلس قيادة الثورة برئاسة الاعلى رتبه من ضباطها (اللواء محمد نجيب)، وان كان الجميع يعرفون أن جمال عبد الناصر هو المخطط والمنفذ لثورة 23 يوليو (تموز) 1952، وخلع الملك واعلان الجمهورية.
كان طبيعيا أن تتجه انظار العرب جميعا إلى مصر التي استولدتها الثورة، والتي كانت قيادتها الجديدة تستشعر بعد طعم هزيمة 1948، والتي ترى فيها المبرر الاساس (بعد الفساد الداخلي) للقيام بالثورة وخلع الحكم الملكي واقامة الجمهورية، وانتخاب جمال عبد الناصر رئيسا للجمهورية، وفلسطين حاضرة في الوجدان، كما على الارض كمصدر للعدوان المفتوح على العرب جميعا بعنوان مصر وثورتها الوليدة.
.. وكان طبيعيا، بالتالي، أن تستقطب مصر ـ الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، الشعب العربي في مختلف اقطاره، خصوصا وانها مدت يدها بالسلاح إلى المجاهدين الجزائريين الذين كانوا يقاتلون الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي “فرنس” الجزائريين وجعل بعضهم جنودا يقاتلون اخوانهم العرب في الاقطار العربية التي كان يحتلها (تونس، وبعض ليبيا، وسوريا ولبنان..)
كذلك فان قاهرة عبد الناصر قد ساندت سوريا ودعمتها في وجه مشاريع التوسع الاسرائيلي، والضغوط السعودية عليها التي بلغت حدود دفع الملايين لاغتيال الشخصيات القومية فيها، وإبعادها عن جمال عبد الناصر.
في هذا المناخ نشأ محس ابراهيم، ابن “انصار” الجنوبية التي كانت تعيش ـ كما كل الجنوب ـ تداعيات الحرب لإقامة اسرائيل بالقوة، فوق ارض فلسطين، مع اطماع معلنة عن التوجه إلى توسيع مساحة الارض المحتلة، بما يهدد لبنان، لا سيما في جنوبه، وسوريا.. في حين تمت “رشوة” الامير عبدالله ابن الشريف حسين، مطلق الرصاصة الاولى (والاخيرة) في الحرب على السلطنة العثمانية (1915).. والذي سرعان ما احتضن الانكليز انفسهم اسرته فجعلوا من نجله عبدالله اميراً على شرقي الاردن، وهو الذي ستجعله النكبة في العام 1948، ملكا على المملكة الهاشمية بعدما تم ضم الضفة الغربية (من فلسطين) اليها.. (ولقد لقي هذا الملك جزاءه اذ اغتيل في صحن المسجد الاقصى بالقدس في العام 1950).. بينما اخذ الانكليز نجله الثاني فيصل من سوريا إلى العراق ليكون ملكا عليها تحت الرعاية البريطانية في العام 1920، وبعدما طرده الفرنسيون من سوريا التي ارادوا الاستقلال بها مع لبنان.. مع تعديلات في جغرافيا البلدين في محاولة لاستغلال التنوع الطائفي، لكن السوريين رفضوا هذه التقسيمات وأصروا على وحدة بلادهم.
على هذا كان طبيعيا أن يتجه محسن ابراهيم إلى حركة القوميين العرب ذات القيادة الوحدوية التي تقول بوحدة الامة العربية، والتي كان بين قيادييها لبنانيون وكويتيون (احمد الخطيب وآخرون) وبعض عرب السعودية والخليج اضافة إلى سوريا ولبنان وفلسطين (التي وقعت تحت الاحتلال او التي صيرت اردنية).
بعد الانقلاب الجذري الذي احدثته ثورة جمال عبد الناصر في مصر، كان منطقيا أن تنتشر حركة القويين العرب في المشرق العربي عموما (لبنان وسوريا والعراق والكويت وسائر انحاء الخليج وليبيا الخ)..
صارت بيروت عاصمة الاعلام القومي، مقابل الاعلام الذي رعاه الاستعمار الفرنسي، ثم تولت رعايته “الرجعية العربية” بالقيادة السعودية ـ الهاشمية ثم السعودية وحدها بعد ثورة 14 تموز 1958 في العراق، بقيادة عبد الكريم قاسم، والتي افترض العرب أن العراق سينضم ـ حكما ـ إلى الجمهورية العربية المتحدة بصيغة او بأخرى، لكن التدخل الاجنبي (شرقا وغربا) وتحريض عبد الكريم قاسم على أن يكون “عبد الناصر المشرق” وليس تابعا لمصر او سوريا (دولة الوحدة ـ الجمهورية العربية المتحدة)، افشل او اسقط هذه التوقعات.
ومن الامانة التذكير بأن الشيوعيين العرب قد دفعوا غاليا ثمن هذا الموقف الخاطئ، وصاروا في عيون الناس “سوفيات” أكثر من الاتحاد السوفياتي.
في أي حال، انشأت حركة القوميين العرب مجلة “الحرية” في بيروت، وتولى رئاسة تحريرها محسن ابراهيم تعاونه نخبة من المحازبين بينهم محمد كشلي والراحل غسان كنفاني واحمد خليفة وبلال الحسن في حين تولى المهام الادارية ياسر نعمة.
مع هزيمة 5 حزيران 1967 اصيبت الحركة القومية بضربة قاصمة.. وقد حاول جمال عبد الناصر استيعاب الهزيمة بالاستقالة من منصبه كرئيس للجمهورية لكن الشعب المصري (ومعه الامة العربية) رفض هذه الاستقالة وطالب عبد الناصر بأن يتحمل مسؤولية “النكسة” ويعود إلى الميدان مقاتلاً.
هنا بدأ التشقق في الحركة القومية، خصوصا وقد رأت اجيال جديدة أن الاشتراكية هي الحل.. ولقد استيسر كثير من القوميين، فأنشأ الدكتور جورج حبش الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في حين انشق عنه نايف حواتمة لينشئ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، واحمد جبريل لينشئ الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة ـ لتحرير فلسطين..
خلال هذه المعمعة انتقلت ملكية مجلة “الحرية” إلى جماعة نايف حواتمة، وكان على محسن ابراهيم أن يبحث له عن موقع آخر.
وبلا شك فان هزيمة 1967 بعد انفراط عقد الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة في ايلول 1961) قد ضربت الشعارات القومية في الصميم، واثرت قطعا على شعبية جمال عبد الناصر، واتجهت انظار كثيرين نحو منظمة فتح، لتحرير فلسطين بقيادة ياسر عرفات.
ولقد شهد شهر ايلول 1970 مجموعة من الانتكاسات المدمرة:
ـ الصدام بين العرش الاردني والمقاومة الفلسطينية في عمان ومختلف المناطق.. وهو قد تسبب في كارثة قومية كبرى مما دفع بجمال عبد الناصر إلى التدخل، وعقد قمة عربية استثنائية في القاهرة في اواخر ايلول 1970، انتهت قبل ساعات من اعلان وفاته رسمياً.
بدأ عهد جديد لقضية فسطين، بل للامة العربية جميعاً، وعندما استفاق العرب من حزنهم، كان عليهم أن يواجهوا الواقع المفجع: لا منظمة التحرير هي البديل، خصوصا بعد تصفية وجودها في الاردن وطرد “فلولها” إلى لبنان… وقد ارتاح الملوك والرؤساء العرب فخرجوا من ظل عبد الناصر ليمارسوا ادوارهم القديمة.
ولان لبنان ليس فلسطين فلقد افترض مناصرو القضية أن وجود ياسر عرفات ومنظمات المقاومة الفلسطينية في لبنان عابر، ولا بد انه سينتهي ذات يوم..
لكن هذا الوجود كان ثقيل الوطأة على لبنان الطوائف والعناصر والمخابرات المتعددة، لم يلبث أن شكل ذريعة للعدو الاسرائيلي لكي يجتاح لبنان في اوائل حزيران 1982، “فيطرد” المقاومة الفلسطينية بقياداتها ومقاتليها الى تونس.. لكي يبدأ عهد آخر.
الهزيمة قاسية، وتراكم الهزائم يستولد المرارة واليأس..
لكن محسن ابراهيم الذي “احترف” تجرع المرارات ظل وفياً للقضية الفلسطينية وثورتها التي انتهت إلى سلطة هزيلة في الضفة، بعد صفقة مصالحة بين ياسر عرفات ورئيس حكومة العدو اسحق رابين تحت رعاية الرئيس الاميركية بيل كلينتون في 13 ايلول 1993.
ونتيجة لهذه “الصفقة” عاد ياسر عرفات إلى فلسطين، ليموت معتلا في 11 تشرين الثاني من العام 2004، بعد فترة قصيرة.. وكان على محسن ابراهيم أن يتلقى ضربة جديدة مؤلمة..
لكن “ابا خالد” استعان بنموذج الرئيس الذي اخذ عنه ومنه لقبه “ابو خالد” جمال عبد الناصر، وقاوم النكسة والفشل المتكرر، بان انصرف إلى لعب دور القيادي في “الحركة الوطنية” في لبنان، بقيادة كمال جنبلاط، بالشراكة مع الأمين العام للحزب الشيوعي في لبنان الراحل جورج حاوي الذي اغتيل في 21 حزيران 2005.
وبعد اغتيال كمال جنبلاط، وهو في طريقه إلى المختارة، في 16 اذار 1977،لم يكن امام محسن ابراهيم غير الاندفاع إلى شد عصب الحركة الوطنية بقيادة وليد جنبلاط.. والاكتفاء بدور “المستشار” و”الخطيب” متى دعت الضرورة.. قبل أن يعتكف في قلب الصمت حتى الرحيل في 3 حزيران 2020، ليعود إلى منطلقه في بلدة انصار الجنوبية، مهزوماً في المعارك جميعاً، مثله مثل الامة التي تحاول الآن حماية وجودها وهويتها من اعدائها الكثيرين، في الداخل والخارج، في حين يتقدم العدو الاسرائيلي لتنفيذ مشروع توسعه الجديد بضم اجزاء من الضفة الغربية ضمنها القدس وغور الاردن إلى “مملكة داوود” تحت رعاية الثور الاميركي ترامب واهل الهزيمة من القادة العرب الذين يتزاحمون الآن على ابوابه.. بشهادة الطائرة الاماراتية التي غطت قبل ايام قليلة في مطار تل ابيب بذريعة انها تحمل اغذية ولقاحات إلى اهل فلسطين.
اليوم، لدى مصر والمغرب وقطر ممثليات دبلوماسية في تل ابيب.. ونتنياهو يجول بين عمَّان وعُمان والقاهرة، ويبعث موفديه إلى دبي، واعداً بزيارتها قريباً.
يا ابا خالد
لقد عزَّ عليَّ الا اشارك في موكب وداعك الأخير في بلدتك أنصار، بسبب اعتلال في صحتي.
لكنك تعرف بالغ تقديري لذكائك ولماحيتك وعنادك، في محاولة اختراق ليل الهزيمة بتجارب قد تكون صعبة ومؤلمة ولكنها اقل كلفة من الصمت الذي يوازي الموت.
اشهد أنك حاولت التغلب على اسباب الهزيمة، وأنك قد ركبت الصعب مراراً وتكراراً، لعل الامة تنهض من كبوتها وتستعيد حيويتها لتستعيد حقوقها في ارضها وفي غدها الافضل.
والامة ولادَّة، يا ابا خالد، ولن تضل طريقها إلى القدس والى القاهرة ودمشق وبغداد والرياض وصولاً إلى سلطنة عمان والى طرابلس المهدمة في ليبيا، وتونس التي تحاول استعادة حياتها، والجزائر التي تجتهد للتخلص من حكم العسكر (ومعها السودان) بينما ملك الغرب يرقب الاحداث من مرصده الذي يطل على جبل طارق، حيث تمخر قطع الاساطيل الاميركية والغربية.
..الامة ولادة، يا ابا خالد، وها هي بيروت تنتفض ضد الجوع، (هل تتصور)، ودمشق جائعة، والقاهرة ضائعة، وليبيا قد سقطت سهوا، والجزائر تحاول العودة الى تاريخها..
الامة ولادَّة..
ولسوف تتذكر ونتذكر معها أنك قد حاولت، مرة واثنتين وثلاثا، ولكن الظروف كانت “غلابة”.
سلاماً عليك، يا ابا خالد، الرجل الذي حاول قهر المستحيل ففشل، لكن له الحق بالشهادة انه قد تجرأ فحاول.
عليك السلام، حيث انت يا ابا خالد، في انصار التي قاومت الاحتلال الاسرائيلي، فرفعت اسمك فوقها عنواناً..