طلال سلمان

إسرائيل خائفة من الهجوم البري أكثر من أهل غزة

اهلكتني ابنتي باتصالاتها عن بدء او تأخر او تأجيل الهجوم البري. وكنت ارد عليها بأنه يا بابا ليس ثمة فارق عند المدنيين بين الهجوم الجوي او البحري او البري. فالقصف واحد والمهم نية الأعداء. وهذا يقود إلى معنى الهجوم البري.

في اعتقادي ان إسرائيل بنت عقيدتها العسكرية على مبادئ الإنذار المبكر والضربة الخاطفة والهجوم كأفضل وسيلة للدفاع، والجرأة في التخطيط لتنفيذ عمليات خاصة في عمق اراضي العدو ونقل المعركة لأرض العدو وتكبيد العدو خسائر فادحة وتدمير قوته لمنعه من تكرار استفزاز إسرائيل لسنوات طويلة.

وكان اسهل شيء على الجيش الاسرائيلي تنفيذ هجمات برية او عمليات خاصة في عمق اراضي الخصم. وقد نالت إسرائيل شهرتها العسكرية على نطاق كبير فقط بعد حرب ٦٧ عندما دمرت الجيوش العربية واحتلت أضعاف مساحتها في سيناء والجولان والضفة والقطاع. وكانت بعد ذلك تصطدم بأنواع من المقاومة التي تعرقل تسييد هذه الصورة (معركة الكرامة، معركة الشقيف، معركة السويس) ولكن سرعان ما كانت تخرج من هذه العرقلة بطرق أخرى.

وكانت الهزة الكبرى عندما حطم الجيشان المصري والسوري اسطورة الجيش الذي لا يقهر . لكن نتائج الحرب السياسية سرعان ما عادت وكرست مكانة إسرائيل في المنطقة. وبعد اتفاقيات كامب ديفيد صار بوسع إسرائيل احتلال اول عاصمة عربية بعد أن سبق ذلك مئات العمليات الخاصة التي عززت مكانة الجيش الاسرائيلي في العالم.

وبعد موجة الهجرة الروسية لإسرائيل واستيعاب عشرات الوف المهندسين والتقنيين، تحققت لإسرائيل قدرات تكنولوجية جعلتها في مصاف الدول العظام.

اربكت الانتفاضة الفلسطينية الأولى الأداء الإسرائيلي، لكن ما ان ابرمت اتفاقيات أوسلو حتى بدأت تتغير الصورة لصالح إسرائيل مرة اخرى وبفارق سياسي كبير. وشخصيا كنت من المؤمنين بأنه لا خيار أمام الفلسطيني والعربي سوى مواصلة المقاومة بانتظار احداث تغيير نوعي في ميزان القوى. وكنت اظن ان المقاومة في افضل حالاتها، ليست اكثر من ادامة اشتباك مع العدو. وكلما كانت إسرائيل تزداد في غيها وقوتها كلما ازدادت وحشيتها في التعامل مع أشكال المقاومة.

وايا يكن الحال، وصلنا إلى ما نحن عليه من نماذج مقاومة خلقت نوعا جديدا من الإيمان بالقدر على تغيير ميزان القوى. في لبنان مثلا وبصرف النظر عن المواقف من هنا وهناك، أظهر حزب الله قدرته على ان يكون ندا للعدو في جبهة معينة. وكان لهذه النديّة ان بدأت بخلق تنازع داخلي كبير في لبنان والأمة العربية كلها. وصارت المقاومة منبوذة من جهات عربية ربما تناصر إسرائيل  ضدها. وكان هذا ايضا حال المقاومة في غزة التي افلحت على مر السنين في بناء قدرة اشبه بالمعجزة، خصوصا اذا أخذنا في الحسبان الحصار الذي تتعرض له غزة ،وهي المنطقة الاشد انكشافا في العالم للمراقبة التكنولوجية والمالية.

وما جرى في ٧ اكتوبر شكل نموذجا جديدا لندية من نوع خاص. فإذا كان نصف الشيعة في لبنان (وهم في أحسن الأحوال ثلث السكان ،هناك في لبنان في افضل الأحوال اقل من ٢ في المئة من عدد العرب )،قد افلح في تشكيل ندية لإسرائيل في جزء من الجبهة العربية ،فإن الدرس هو ماذا لو كان كل الشيعة وكل لبنان ومعهم ١٠ في المئة من أمة العرب.  وهذا ما يسري بشكل اكبر على غزة بما فعلته من زلزال كبير في إسرائيل، وهي غزة على ما هي من فقر وعوز وحصار

وتكون أهمية ما حصل في ٧ اكتوبر ،أنه جرى من غزة تحديدا ،وفي ظل تنويم كامل للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. الزلزال لم يحدث فقط في اسرائيل ،وإنما في كل العواصم التي صنعت إسرائيل واوجدتها، كما كنا نقول في الماضي، رأس حربة الامبريالية في المنطقة. صدمة هؤلاء كانت مهولة. لم تستطع إضاءة البيت الأبيض والمقرات الحكومية والرموز الهامة كبرج ايفيل بالوان العلم الاسرائيلي، ان تخفي ان هذه إشارات ليست للتضامن، وإنما تأكيد على أنها لن تسمح بسقوط حصنها في المنطقة.

الغرب سمح لإسرائيل باختراع القصص واتهم الفلسطينيين بالارهاب واتهم “حماس” بأنها “داعش” وأعطى إسرائيل اذنا بالقتل وتجاوز كل المعايير الدولية. في فرنسا هاجموا التظاهرات وامروا بحبس كل من يناصر المقاومة، وهذا ما حدث في أماكن أخرى. وتبين أن الغرب بكل ما عليه، بعيد عن مفاهيم القانون والحق الإنساني، وصاروا جميعا بانتظار ان يرمم الجيش الاسرائيلي صورته.

الجيش الاسرائيلي “ماركة” مثل “آبل” و”سامسونج”، لها قيمة وقد انهارت هذه القيمة في البورصة السياسية الدولية. وهم لا يريدون ذلك.

الغرب يدفع إسرائيل دفعا للعملية البرية ،ولكن إسرائيل خائفة اكثر من اهل غزة من العملية البرية. صحيح انها استدعت مئات الوف الجنود لهذه الحرب، لكنها لم تستطع من داخلها الخوف من تراب غزة ومن هوائها قبل مقاومتها. وهذا ما يزيد الطين بلة.

أمريكا تضغط على كل العرب للتسويق لخطتها الرسمية لاعادة المكانة للجيش الاسرائيلي. الموقف المصري باشتراط فتح المعبر للمساعدات الإنسانية لغزة، وهو ما يقتضي اعلان هدنة، امر ازعج أمريكا وإسرائيل. فالوقت يمر وغزة لم ترفع الراية البيضاء. كما أن اقتراحات تبادل المساعدات بتحرير الاسرى والرهائن الاسرائليين لم يلق اي صدى لدى المقاومة.  لذلك إسرائيل والغرب في حيرة من امرهم. لا يريدون بقاء حماس، ولا يريدون معركة طويلة ،ولكن لا يمكنهم استمرار تجاهل المأساة الإنسانية في القطاع. كل هذا يزيد الوضع تعقيدا.

باختصار العملية البرية قرار متخذ، لكنها ليست في اي حال تختلف عن الهجمات البحرية والجوية الا بمقدار ما تراه إسرائيل مجهولا لها حتى الان : حجم الخسائر التي ستمنى بها اذا قررت فعلت الهجوم البري، وعجزها حتى الآن عن توقع نتائج هذا الهجوم.

Exit mobile version