طلال سلمان

إردوغان يجدد ولا يتجدد

أن يفوز إردوغان في انتخابات الرئاسة والبرلمان المقرر لها يوم 24 الجاري بدون تزييف أو كذب وأغلبية ساحقة معناه أن تكون تركيا قد حققت، على الأقل في آخر سنوات عهده نسبة نمو اقتصادي عالية وأمنت لشعبها مظلة حقيقية من الحريات والحقوق وأقامت علاقات خارجية طيبة مع العدد الأكبر من الدول وبخاصة في الجوارين الأوروبي والشرق أوسطي.

هذا الشرط المنطقي لم يتحقق. النمو الاقتصادي في تركيا وفي ظل حكومة يقودها حزب إردوغان يكاد يكون متوقفا. الاستثمار الخارجي متردد والمستثمرون قلقون، وبعضهم يردد أسباب تردده منها السياسي وكذلك الاجتماعي والاقتصادي. انخفضت الليرة التركية بنسب عالية وصلت إلى 20 بالمائة وارتفعت معدلات التضخم وكذلك معدلات البطالة وبخاصة بين الشباب ووصلت نسبة الزيادة في العجز المالي في ميزانية الدولة إلى حوالي الستين بالمائة.

من ناحية أخرى تواصلت عمليات الاعتقال السياسي. يقدرون عدد المعتقلين لأسباب سياسية بحوالي خمسين ألفا، وعدد المقالين في سلك القضاة وحده بحوالي 110 ألف قاض. أعداد المعتقلين في هيئات التدريس والشرطة والجيش هائلة ومتزايدة. يقدر خبراء دوليون عدد اللاجئين السوريين بأرقام تقترب من 3.5 مليون لاجئي. هؤلاء وحدهم يمثلون حالة اجتماعية معقدة بسبب ما يثيره هذا الوجود السوري الضخم من توترات في المجتمعات السكانية التي نزل فيها وامتزج بها هذا العدد من اللاجئين.

***

أما العلاقات الخارجية فوضعها ليس بأفضل. تركيا، بل نفس هذا النظام الإردوغاني الحاكم كان يفخر قبل عقد من الزمن لا أكثر بأنه يحتفظ بعلاقات طيبة جدا مع أكثر الدول. نذكر بلا شك عبارة وزير خارجية الحزب الحاكم وقتذاك وإردوغان أحد زعمائه وصفت السياسة الخارجية وحال العلاقات الخارجية “بالصفر مشاكل”. كانت بالفعل لحظة مثالية في تاريخ الدبلوماسية التركية. لحظة فردوسية تحلم بها دبلوماسيات الدول على اختلاف أنواعها حين تكون الحدود آمنة والعلاقات مع الخارج مستقرة وساحاته مفتوحة تغري تركيا بالدخول فيها تمارس النفوذ وتقيم تحالفات وتعقد صفقات، بل وتعتقد في قدرتها على أن تعيد الحياة إلى الماضي. أقول أنني مازلت أعتقد أن تلك الأيام، وهي قليلة على كل حال، والفردوس الذي غرست صورته في العقل الرسمي التركي، هي العنصر الذي فجر من جديد الظاهرة الشعبوية في الحياة السياسية التركية بعد أن عاشت كامنة لعقود كثيرة.

لذلك أستطيع بسهولة أكثر فهم حالة خيبة الأمل التي تهيمن على عقل الرئيس إردوغان. هذا الرجل هيئ له بالنية الحسنة أو بغيرها وباقتناع عميق من جانب بعض رفاقه وأقرب مستشاريه أن الريادة التركية مطلوبة فورا في الجوار الشرق أوسطي وأن دورا تركيا حاسما حان وقته في أوروبا. هذا الرجل نفسه هو اليوم غارق حتى أذنيه في مشكلات خارجية في الناحيتين الأوروبية والشرق أوسطية على حد سواء. خاب الأمل خيبة عظمى فلم يجد سوى نظرية المؤامرة علاجا وقتيا أو مبررا أمام قطاعات شعبية انجرفت وراءه ووراء الحلم.

في مثل هذه لدول التي عاشت في تاريخها مرحلة توسعت فيها إمبراطوريا أو استعماريا أو رياديا برسالة أو عقيدة أو بغيرهما يشكل الماضي ضغطا على حكامها يصعب أحيانا تحمله فيسقطون ويبقى الماضي حاضرا ثقيلا ينتظر من يأتي بعدهم. إردوغان، قبل أيام قليلة، اشتبك مع وزير في حكومة النمسا حول دور مساجد المسلمين في هذه الدولة. كلنا نحاول أن نفهم العقدة التاريخية المركبة لدى المسؤولين الأتراك والنمساويين على حد سواء. هناك على تلك التلال المحيطة بالعاصمة فيينا حشدت الدول الحليفة للنمسا قواتها فأوقفت الزحف العثماني الذي كان يمكن لو أفلح حصار عاصمة الإمبراطورية النمساوية أن يغير جذريا شكل أوروبا والمسيحية والإسلام جميعا. إردوغان في اشتباكه مع المسؤول النمساوي هدده باشتعال جديد للصدام الدموي بين “الهلال والصليب” في النمسا أو في أوروبا. من يعرف أوروبا في الوقت الراهن يعرف أهمية مثل هذا التهديد الفارغ، ولكن الخطير في مغزاه وتداعياته. أظن أن إردوغان لا يتمتع حتى لو كان رئيسا لمنظمة التعاون الإسلامي بسلطة إصدار مثل هذا التصريح نيابة عن أمم المسلمين وحكامهم. أظن أيضا أنه ليس من حق أي حاكم لدولة إسلامية التحدث باسم كافة المسلمين وجرهم إلى نزاع لا يخصهم، كالنزاع الناشب بين حكومة إردوغان وحكومة النمسا حول حق الحكومة التركية في إدارة حملتها الانتخابية على الأراضي النمساوية وابتزاز الجالية التركية وإثارة الاضطراب في صفوفها. مرة أخرى يتهم إردوغان المؤامرة الدولية على تركيا وعليه هو شخصيا بإثارة مشكلات مع تركيا في أوروبا.

***

ضغط آخر واقع لا محالة على إردوغان من قوى التاريخ وشخصياته. ما زال كمال أتاتورك الشاحن الأعظم للطاقة السياسية في تركيا، وما زال في الوقت نفسه أهم الكوابح المعيقة لأحلام عودة الخلافة في أي شكل من أشكالها وتحت أي صورة من صورها الحديثة. ما زلت أعتقد أن التراث الأتاتوركي كان من أهم العوامل التي أضعفت ثم أبطأت مسيرة مشاريع قطاع في النخبة التركية المعاصرة التوسع بالنفوذ في دول الجوار العربي. أضعفها أيضا التراث العثماني المتراكم في العقل السياسي العربي، كان هذا التراث وراء الشك العتيد في كل اختراق تركي جديد في المنطقة العربية.

لا شك في أن إردوغان حقق لتركيا في البداية إنجازات على أصعدة متعددة ليس أقلها شأنا التوصل إلى هدنة عسكرية لفترة غير قصيرة مع قيادات حزب العمال الكردستاني. من الإنجازات أيضا قفزة عالية في نسب النمو والاستثمارات والتجارة الخارجية واختراق أسواق ومواقع نفوذ في إفريقيا لم تلبث جميعها أن تهبط وتستقر إلى ما ليس أبعد كثيرا عن بداياتها رغم التكلفة العالية التي تحملتها وتتحملها قطاعات هامة في الطبقة الوسطى والطبقات الأقل حظا مثل الأكاديميين والمفكرين والشباب المتعلم وفئات بين المهنيين والنقابيين. يحاول إردوغان تعويض عجز نظامه عن تأمين حريات المواطنين وحقوقهم الإنسانية وعن مواجهة حال الاستقطاب الشديد في تركيا بتنفيذ سياسات ورفع شعارات “شعبوية”. ينقل هنا عن تجارب في المجر وبولندا وإيطاليا وتحاول النفاذ إلى عصب الديموقراطيتين الألمانية والفرنسية.

يعتقد أغلب المتخصصين الأوروبيين في الشأن التركي أن إردوغان سوف يحصل على أغلبية مريحة تساعده في التغلب على منافسيه في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة. ينقسمون عندما يتعلق التنبؤ بانتخابات البرلمان. قسم يتنبأ بفوز حلف الحكومة بفضل التعبئة الإعلامية الرسمية ومطاردة المعارضة وقسم يعتقد أن هذه الانتخابات سوف تسفر عن مفاجأة، برلمان قوى ومعارض للرئيس إردوجان.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version