طلال سلمان

إذا لم تكن هلوسة فماذا تكون!

قضينا أنا وأختي الصغيرة جانبا من وقت النشأة في بيت شقيقتي الأكبر ندرس ونلعب مع ابنتيها، إحداهما أصغر مني بعامين والثانية في عمر شقيقتي الصغيرة  التي تصغرني بأربعة أعوام. كانت تعيش معنا في بيت شقيقتي فتاة من الريف في مثل عمرنا، تدرس معنا وتلعب وتأتي أمها في الشهر مرة تحصل مبلغا مقابل ما تحمله من منتجات قريتها. تقضي ليلة أو ليلتين ولا يفوتها خلال زيارتها أن تضعنا في صورة آخر ابتكاراتها من حواديت وأغاني مخصصة للأطفال أو هكذا اعتقدت نساء القرية. أذكر كما بالأمس أغنية توظفها الأمهات لينام على كلماتها ووقع نغماتها الأطفال. تقول الأغنية “أنا العفريت لخضر أمشي بدال البط واتمختر. مرات أبويا دبحتني وحطيتني في الحلة وسلقتني وأبويا كل حتة مني واختي عرفت ماكلتش..”  الغريب أن الريفية التانية التي كانت تزور بيت أمي كانت تردد على أسماعنا الحكاية أو الأغنية نفسها ضمن أغان أخرى شبيهة.

ورد ذكر جلساتنا في نصف دائرة حول أم فاطمة بمناسبة اتصال هاتفي بشقيقتي أتأكد منها، وهي تتأكد بدورها من إحدى الشقيقتين، عن تفاصيل حكاية من نوع آخر كان يرددها أمامنا ونحن صغار أبي وأحيانا أمي. يحكيان، أبي وأمي، عما تعرضا له عندما سكنا بيتا في حلوان لأيام قليلة. كان معهما ابنتهما وابنهما وكلاهما في سن الطفولة. تزعم أمي في حكايتها أنها كانت تسمع صوت أطفال يغنون ويلهون في الغرفة المجاورة لغرفة نوم طفليها فتهرع إليهما وتفتح الباب فلا تجد أثرا لأطفال غير طفليها وشقيقتها التي لم تكن تتجاوز الثانية عشرة. توقظ شقيقتها وتسألها إن سمعت ضجة فتنكر الشقيقة. تكررت الضجة في اليوم التالي. وهو اليوم الذي أحست فيه عندما دخلت الحمام لتستحم أن شخصا موجود معها فيه. لم تخبر والدي بالأمر ولا بالضجة الصادرة عن غرفة نوم الأطفال إلا في اليوم الثالث لوجودهما في البيت. ما أن سمع أبي بما حدث إلا وطلب منها جمع أمتعتهم استعدادا للرحيل فورا.

من ناحيته، أكد لنا الوالد أن البيت كان مسكونا. قال إنه سمع من أمي ما حدث مع الأطفال ومعها في الحمام ففاجأها بالقول بأن ما حدث معه يفوق في غرابته ما حدث معها. كانا نائمين في فراشهما عندما دقت الساعة معلنة منتصف الليل، انتبه إلى أن غريبا خفيا موجود معهما في الغرفة. لم ينهض من الفراش. كتم الصوت وحاول النوم فاستعصى عليه. إذا به يسمع همسا خشنا في أذنيه يطلب منه إخلاء مكانه في الفراش. استمر ساكنا في خوف شديد. فتح عينيه ليرى أمامه رأسا سوداء البشرة يكسوها شوك والعينان تطلقان ما يشبه النار. يقول الوالد إنه صرخ رعبا ونهض من الفراش وظل مستيقظا حتى أفاق الطفلان وخالتهما وأمي وتوجهوا جميعا إلى محطة القطار. هناك في المحطة أسر الوالد إلى ناظر المحطة بجانب مما لاقوه من أذي في البيت فجاء رد الناظر سريعا، لا شك أنكم سكنتم “بيت مدام أصفر”. نعرفه مسكونا. من هذا الذي دلكم عليه لتسكنوه؟.

عدت من آسيا وحكيت لأبي ما جرى معي في أهم ميادين نيودلهي وأكثرها ازدحاما بالسكان ولم يكن قد مضى على إقامتي بالعاصمة الهندية أطول من أسبوع. لن أطيل حيث أنني جئت على هذه الحكاية في كتابات ليست قليلة. قابلني رجل أشعث الشعر رث الملابس وناداني من وسط الناس باسم أمي. لم يكن ينظر في وجهي وهو يقول أنت جئت إلى الهند قبل أيام لتقضي فيها سنوات، ولكنك ستغادرها قريبا وتعود إليها في ظروف كارثية. ومشى لا يولي على شيء كأنه لم يفعل ولم يقل شيئا غريبا.

خطر على بالي اليوم وأنا أستعيد ماضي حياتي المديدة ومنها حكايات عن الأشباح  في حي السكاكيني وحكايات كبار الأهل في حارة الوراق بالجمالية ومنها حكاية حمار جدي الذي راح يعلو به وهو راكب فوقه، أقول خطر على بالي تساؤل عن الأنشطة المتعلقة بأسطورة أو حقيقة وجود عالم آخر نعيش على حدوده ولا نراه، وهل لدى العلم وأصحابه تفسير ما كان يحدث ولماذا لم يعد يحدث؟. أخيرا توجهت بالسؤال لزميلة في الشروق وفي صفحة الرأي تحديدا، حققت من العلم ما يزيد ويفيض وتخصصت في كلية الطب في علوم العقل والمخ. عرضت عليها السطور القليلة التي كتبتها وطلبت منها الرأي. فيما يلي رأي الدكتورة بسمة عبد العزيز.

لم يكن في خاطري وأن أتلقى المقالة من الزميل والصديق العزيز جميل مطر؛ أنني سأقع على مثل هذا الموضوع الذي يعد موروثًا ثقافيًا عامًا، تتشاركه أمم وشعوب ومجتمعات كثيرة.

قصص العفاريت وحكايات الأرواح، الأحداث العجيبة والوقائع التي تسجلها الذاكرة وتتناقلها الأجيال؛ مهما بلغت بها الثقافة ومهما أبحرت في مجال العلم والبحث والدراسة.

الحقُّ أنني سمعت حكايات كثيرة مثلي مثل غالب القراء، خفت منها في سني الطفولة، ولبثت بعض المرات في ظلام حجرتي أترقب المجهول الآتي، وربما أرتعش لأقل صوت يصدر عن حجرة مجاورة أو عن فرد من العائلة لم يزل مستيقظًا في عتمة الليل ومهابته. مع الوقت تحولت من طور الخوف إلى التفكير، ومع التقدم في العمر، تحولت إلى الهزل كلما صادفت من يؤمن بعالم العفاريت والجان وما بينهما من طيف واسع من المسميات.

كبرت ودرست وتراجعت قليلًا عن التنكيت والسخرية، ونظرت إلى الأمر من زاوية ربما تكون أكثر موضوعية. ثمة تفسيرات عديدة ومتنوعة لأمور مذهلة تحدث فيراها البعض ويسمعها بعض آخر وينفعل بها كثيرون، منها ما يقع للبشر في المنطقة الزمنية التي تحيط بعالم النوم الغامض ويمكن الحديث عنه في إطار العلوم والدراسات؛ إذ قد يصاب النائم مرات بحال أشبه بالشلل التام، ولا تكون الحواس حينها في حال متوازنة متناغمة، الأمر الذي يدفع للإحساس بوجود شيء غامض لا يمكن إدراكه بوضوح. تتدخل المخيلة حينئذ وتفعل أفاعيلها الجنونية، ويتحرك اللا وعي فيجتر مخاوفه وهواجسه، ثم تتضافر العوامل كلها لتصنع في نهاية الأمر مشهدًا مفزعًا، يبدو كما لو كان حقيقة.

يسرد الجدود ما يخيف الطفل كي ينام، رغم أن الرعب قد يُذهِب النومَ من أجفان الكبار، فالصغير يفضل في العادة أن يهرب وأن يغيب فلا يبصر ما يخشى، ولا عجب أن تأتي هذه الوسيلة بالمراد، فيسقط الأطفال في النوم وفي رؤوسهم ما يدور وينمو ويتوالد، وربما يعود في لحظات الصحو ليداعبهم وقد صاروا بالغين، فيأخذونه على محمل الجدية، ويفتشون عن الحل الكامن منذ البداية في دواخلهم؛ فلا يعثرون عليه.

إلى جانب التفسيرات المحققة، لا ينبغي التهرب من حقيقة دامغة؛ مؤداها أن معرفتنا لم تزل قاصرة عن تحليل كل ما يصادفنا من ظواهر، وأن جهلنا الحالي لا يعني أن ننسب ما خفي علينا لأمنا الغولة أو الساحرة الشريرة؛ فالتاريخ يوثق على سبيل المثال حالات من التشنج والانقباضات العضلية العصبية؛ أرجعها الناس في زمن بعيد لا إلى مرض محدد المعالم، بل إلى كائنات غير مرئية تتلبَّس المُصاب؛ ولما تقدم الطب أثبت الأسباب ووضع الدواء.

لم تزل كبريات شركات الإنتاج تقدم دراما الرعب، ولم يزل الناس يطرقون دور العرض ليطلقوا الصرخات ويستسلموا لانفعالات عنيفة، ومن المنصف القول بأن هذه اللحظات تخرج ما تراكم في النفس من ضغوط وتسمح بتفريغ شحنة هائلة من التوتر، والحق أن الواقع صار مرعبًا بما يكفي للتغلب على منافسيه من كتاب ومخرجين.

أخيرًا، لا يمكن إغفال دور الوعي الجمعيّ الذي ما إن تصادفه أزمات عارمة عميقة، فإنه يلجأ إلى حلول بسيطة؛ لكنها تتسم بكونها خارجة عن السيطرة، فإذا كانت هناك قوة فاسدة غير خاضعة لقوانين البشر وقواعدهم؛ أمكن عزو الشرور إليها، وألقي عليها اللوم بلا تحفظ؛ تلك آلية دفاعية نستخدمها ما عجزنا عن حل صراعاتنا وما أردنا العيش في سلام داخلي وإن أدركنا مدى زيفه.

جميل مطر وبسمة عبد العزيز

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version