غداً، تغادرنا «السفير».
هي في سفر أخير. استأذنتنا بالنهاية. تحية الوداع تليق بالخسارة…
بعدها، لا حرف منها، لا كلمة، لا عبارة، لا مانشيت، لا شيء!
قاسية هذه الخسارة، ثقيل جداً هذا الفراغ. مربك هذا العراء.
«السفير»، في سفرها الأخير، قالت ما قالته على امتداد عقود، ثم انتهى القول.
تغادر وتظل مقيمة في الزمن وفي جلال الذاكرة. دخلت التاريخ بختم الكلمة ومشقة الموقف وخطر التحدي. بعدها، غداً، لا يشبه الأمس بالمرة… فراغ كبير صباحي. قهوة مرة بلا مانشيت. طعم النهار يلامس العلقم: لا يعرف الشوق إلا من يكابده.
مبنى صامت. لم يعد لها مكان إقامة في أي مكان. «لكِ يا منازل في القلوب منازل». المتنبي اختصر الأزمنة باحتضان العاطفة لتحولات الأيام… الصمت الجليل يسكن الجريدة. لا أحد غير ربانها. يقف وحيداً، يرسم للأفق لوناً آخر، يشبه لون «حمامة السفير». طابع لا يمحى هذا الذي ابتدعه حلمي التوني، وحضن بين جناحيه، قائمة من الكتاب والمفكرين والشعراء والفنانين، وشعب علا صوته، فكانت «السفير» حنجرته.
انتهت؟
كان عليها أن تتأخر قليلاً أو مديداً. يبدو أن نهاية كهذه تشبه أفولاً في عز الظهيرة، ليلاً في وضح النهار… تليق بالمغادرة أم تلقي عليها تحية الوداع، ولا تجرؤ على التمني بـ «إلى اللقاء».
كانت «السفير» تتسع للأزمنة والأحداث. عبرت بالتاريخ أربعة عقود سمان. لولاها، كان تاريخنا ناقصاً أو مبتوراً أو مهملاً. ملأته بحناجر القضايا. اعتلت منصة الكلام المختلف والجديد الطازج. قالت: «كونوا الصوت، يا أيها الذين لا صوت لهم يسمع»… ما كانت «السفير» صوتهم فقط. كانوا هم صوتها الأصيل والحقيقي. كانوا لغتها. كانوا همها. كانوا في ضيافتها وكانت تطرق أبوابهم، فتنفتح العيون على قراءتها، بشغف التغيير. كانوا صوتها الأصيل والحقيقي.
احتلت مساحة من القول فسيحة: عروبة بلا تعالٍ، وطنية مبرأة من الطائفية، علمانية صادقة وغير مستفزة، فلسطين في كل أحوالها، منذ بدء تاريخها إلى منتهى حريتها وحركات تحررها… انتقت «السفير» الصعب وارتادته والخطر فركبته. كانت صوت الحركة الوطنية التي اغتيلت باغتيال قائدها كمال جنبلاط. وكانت صوت العروبة بلكنة ناصرية وحدوية حضارية، وجهتها فلسطين. انتماؤها هذا لم يكن بديلاً من الديموقراطية التي تكرست في كتاباتها وفي كتابها وفي قرائها. رأي عام مختلف يومها، عن الرأي الطائفي الخاص المنتشر راهناً، فيجعل من الصحافة صوتاً بلا صدى.
كيف جمعت «السفير» كل ذلك؟ صفحاتها تشهد على ذلك. كتّابها أيضاً. قراؤها أيضاً أيضاً.
غداً، تغادرنا «السفير». سنبحث عنها في ماضيها. سنجد أننا فارقنا عصراً جميلاً وأزمنة مفتوحة على الأفق… تغادرنا «السفير»، ويا ليتها تأخرت أكثر. لكن كل شيء كان يدفعها إلى هذه الخاتمة، كي تموت واقفة كالأشجار. كان كل شيء قد انتهى قبلها. ما كان ممكناً أن تستمر. السقوط حولها مريع. لبنان عالة سياسية وموت يقتات منه عتاة الطوائف. لم يعد فيه ما يصلح جملة واحدة. عجز جماعي، في السلطة والشعب والأحزاب والتيارات. اجترار وتكرار واستعادة أدوار. وكل كتابة شريفة تخريف… السياسة هجرت لبنان. العروبة اغتالها أهلها. التقدمية زحفت إليها جحافل الرجعية والملكيات المطوّبة بالنفط والعار والتعصب. العلمانية تراجعت إلى حدود السترة. المشهد العربي لم يعد عربياً . إسلاميته مكتظة بالتوحش. أنظمته على حافة البربرية… ماذا بقي لـ «السفير» في هذا العالم؟ ما كان ممكناً أن تبقى، وقد شارفت الكيانات والأنظمة والثقافة والحضارة على النهايات. هذا زمن ممسوس بعدمية قاتلة.
غداً، إذا مررت بدار «السفير» ألق عليها السلام. لن تجد أحداً من أولئك الذين صنعوا مجدها وبنوا مداميكها وأسهموا في ولادتها فجر كل يوم. لم يوقفها قصف أو اعتداء أو احتلال أو اجتياح أو محاولة اغتيال… ظلت تصدر: لم ترفع الرايات البيض. لم تستسلم أبداً. دخلت إسرائيل بيروت و «السفير» تواجه الحصار بالموقف والكلمة والخبر… كان طعم الصحافة المر حلواً جداً. كانت «السفير» يومذاك، هويتنا النضالية. وما أخطأنا عندما انتمينا والتزمنا… أسماء كثيرة تركت في تاريخ الجريدة صفحات ملونة بالأسود الجميل. حبر الكلمة وحبر القلب وحبر العقل.
المسألة المالية نتيجة لا سبب. أزمات الصحافة مع التمويل والدعم مزمنة. هذه المرة المسألة مختلفة. نضوب المال، ونضوب القراء ونضوب الإعلان، متأت من نضوب الوطن ونضوب المؤسسات ونضوب الأحزاب ونضوب النقابات ونضوب الأحياء، وهم أموات يرزقون.
على أمل أن تبقى حاضرة بعد غيابها. نختم القول:
«أديت قسطك للعلى». فشكراً. من حقنا أن نبتسم بفخر. «السفير» باقية بعد مغادرتها. لا يستطيع النسيان إلغاءها من التاريخ الذي صنعته وصنعنا. ومن حقنا أن نحزن، «السفير» المغادرة، أخذت زمننا الجميل معها، فكيف نسترده؟
غداً، تغادرنا «السفير».
إحساس باليتم وشعور بالضياع. وسنجهش بأنصاف الكلمات.
ستدلنا خطواتنا على أماكن نتسكّع فيها، بحثاً عن «صوت الذين لا صوت لهم».