طلال سلمان

أيلولُ يعصرُ الحزنَ المتبقّي ..

أيلولُ في هذا العامِ حزينٌ جداً، يرتدي عباءته السّوداء فيشعرُ بالشّمس تجلده، يخلَعُها فتدبّ الشّهوة في الحزنِ كي يقترب.

قوافلُ الأخبارِ تحملُ صوراً حزينةً تكادُ تصرخُ من الألم وأيادي أربابِ البلاد أقصرُ من ألسنةِ اللّهب، وبطونُهم ترفضُ الخبزَ الشّعبي، فلا يجوعونَ مثلنا، ولا يلدَغُهم خبرٌ عاجل.

رغيفُ خبزٍ لا يُؤكَل، على رصيفٍ يلمحُ شجرةً تستنجدُ بمن تبقى مِن البلاد والعباد .

تضربُ العِصيُّ برأسها أصابع النار، تتوسّل لها أن ترحمَ شقاءَ الأجداد، أن تقدّس العرقَ الذي شربتهُ الأرض على مرّ السنوات .

يقاسِمنا الحزنُ أيامنا، يتلحّفها، يقصدُ القلوبَ فيمليها التعبَ و الاستسلام، يقصدُ المدنَ فتجوع، يقاسمنا رغيف الخبزِ المغشوش فلا يستسيغه، يقصد ظلال الأريافِ فيُعاقبها، يهدمُ أعشاش العصافير .

أنجبَ أيلولُ رغيفاً مشوّهاً، و توأمي سنديانٍ ميّتان.

و نزفَ الكثير من الأسى .

العطف الدولي أداة سياسية وليس تعاونًا إنسانيًّا، لو كان هذا عالمًا يبالي بغير الربح لما مات الآلاف غرقًا وتحت الركام، و ماكرون الرئيس الفرنسي يستعرض نفوذه الواسع في المنطقة، إنه يفرد عضلاته التي يعرف شعبه هزالها .

والتضخم ليس نتيجة تلاعب التجار، لا يوجد تاجر مهما بلغت ثروته يستطيع فرض التضخم على أي اقتصاد، التضخم سياسة حكومية يتم تطبيقها على النظام الاقتصادي لتوفير الثروة عن طريق إضعاف قوة الشراء المستقبلية للمواطن، لأن الحاضر أضمن من المستقبل.

الحزن كثير في هذه البلاد الكئيبة

ووحده الحب “يرش على الموت سكّر”.

صديقي المقرّب يشكو جور البلاد على المغترب، وشبابه .. ويغوص في مقاومته الخاصة كلّ ليلة عندما يُجهش بالضحك .. على كلّ ما يجري هنا.

و الكهرباء في بلادنا ضيف عزيز لم يزرنا اليوم، في بلاد الموت هذه .. حيث يدفن الحلم حياً، وتقتل المحاولة قبل أن تولد .. وهذه حقيقة لا تُرضي العقد النفسية للبعض من الأساتذة الجامعيين الأفاضل .. المصرّين على هدمنا، إحباطاً على إحباط.

جارنا يتشاجر مع زوجته ويطلب منها بحزم التخلّي عن كل وسائل التهوية في ظل هذا اللهيب ودرجة الحرارة المرتفعة حفاظاً على شحن البطارية .. وهو محق للأسف، فوزارة الكهرباء لا تؤتمن، قد تدفعه لمواجهة الظلام بلا مبالاة واضحة ومعلنة.

جارنا الأيسر يستمع إلى أخبار العالم، حيث تتلو وزارة الإعلام بقنواتها المحلية والوطنية نكاتاً لم تعد مضحكة عن المقاومة والوحدة الوطنية ..

أنا أفكّر في الطريقة الأمثل للنجاة .. بلا نتيجة.

عمرنا عبارة عن تسديد ديون ليست علينا ..

صديقي الآخر يشكو من أعراض اللعنة المضاعفة كما سمّاها لي سابقاً، حيث يقول أنّك عندما تولد فلسطينياً فقط فتلك لعنة عالمية، وعندما تولد فلسطينياً سورياً تصير اللعنة مضاعفة .. والآلام مضاعفة.

كان علينا أن نرمي قلبنا في البحر، ونلجأ الى وطن أشبه بتابوت أخضر.

أن نبيع عيناً من أعيننا، خاصرة أو ولداً، لنصل إلى الضفة الأخرى من الحياة، و أن نصادق موتنا في السابعة صباحاً فقط لنقول “صباح الخير”.

الكآبة الصباحية لا تختلف كثيراً، الوجوه في الشارع مستنسخة، الهموم تغتصب ملامح الجميع، الآمال متشابهة: أدنى حقوقنا أمل لا ينال .. والآلام أيضاً متشابهة، لقد وصلنا الى الحد الذي نجتر فيه أنفسنا، تلك أقصى نقاط الهامش الذي نحيا به.

الفيس بوك ومواقع التواصل تحوّلت لسباق نعوات.

أفكّر مرة أخرى:

لقد سجنونا في “مزبلة” التاريخ ..

أيّ ترفٍ هذا!؟

لا شيء لنكتب عنه هنا .. مع أن يومياتنا الدامية أقرب ما تكون لحبكة فيلم تراجيدي متقن، وفي الحقيقة .. كلّ يوم تشير الأحداث إلى اقتراب الفاجعة النهائية، فيتضخّم الخوف .. ولا أبلغ المساء إلا وقد أغشي علي من الهرب والترقّب، لكن القيامة لا تأتي .. والكابوس يعاود اجترار نفسه في كل صباح بابتزال مقرف.

التطبيع محور المرحلة، والعروبة والإسلام شعار قومي متداول، مع العلم أن العروبة ليست قومية وإنما عرقية، والأعراق والأديان أسس رديئة لنشوء الدول، اسألوا النازية وأوروبا القرون الوسطى، لابأس، فقطار القوميات ولّى بجميع الأحوال.

فكّرنا منذ أيام أنا وصديقي في الضياع والهرب من البلاد إليها، عندما بلغ حصار الحدود ذروته في أنفسنا.

لكن للأسف، كل شيء هنا يعيدك إلى ألم البداية

كان أوّل ما صادفناه، أرجعنا بقسوةٍ الى الواقع الذي لم نفلح في التملّص منه طويلاً . امرأة تلاعب أطفالها بضحكات عالية، وتحرّكها الحياة كدمية .. كلّ شيء كان أشبه بالطبيعي مع بعض الريبة التي تنتابك من تطرّف البهجة التي تبديها، حتى لمحت الذُلّ في عينيها .. وقرأت الانكسار الأنثوي كلّه في توددها المبتذل للرجل الذي شاركها المقعد بشهوانية جنسية واضحة، ابتسامتها المصطنعة، دفنتني حيث أنا .. خصوصاً وأنها لا تشير ألى أي تردد، بل إلى احتراف وتاريخ مؤلم في ممارسة الذُلّ .

تمالكت ما تبقّى من أنفاسي وتحرّكنا قليلاً، لنبتعد .. بلا فائدة، قرّبني الرجل ذو البنطال المبقّع، المرقّع وهو يفترش المقعد في زاوية الشارع لينام من المأساة أكثر.

أعادتني رجاءات المتسوّلين أدراجي، الأنقاض في الشارع المقابل للمدينة القديمة الأثرية، الطّفل الغارق في القمامة بحثاً عن كسرة خبز، الازدحام الشّديد، وتدافع الناس رغم الوباء بلا مبالاة .

في الوقت الذي كان فيه صوت الدرويش يدور داخل رأسي:

“خيالي .. لم يعد يكفي لأكمل رحلتي

هات الدمع أنكيدو .. ليبكي الميّت فينا الحي.”

Exit mobile version