طلال سلمان

أيام في روما.. بالإفلاس الاضطراري وحكاية شادي عبد السلام ومسلة الفاتيكان

ذات يوم من اوائل أيلول 1969، طلب إلّي المرحوم سعيد فريحة، مؤسس دار الصياد وأحد ملوك كتاب الظرف واللفتات والتوريات والسخرية المثيرة للاهتمام، قبل الضحك وبعده، ان أسافر الى ليبيا لتغطية الحدث الجلل فيها: قيام “ثورة الفاتح من سبتمبر” بقيادة العقيد معمر القذافي..

لم يكن بوسع الطائرات اللبنانية السفر الى طرابلس “الغرب”، فطلب مني سعيد فريحة أن أقصد القاهرة وأتدبر من هناك إكمال الرحلة الى ليبيا، خصوصاً وان موظفي سفارة المملكة السنوسية في بيروت كانوا قد “اختفوا” ريثما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود..

في القاهرة وجدت أن لا طائرات تقصد ليبيا في تلك الأيام، تحسباً من “غموض الوضع” بعد تولي الجيش السلطة..

اتصلت بأستاذي سعيد فريحة أبلغه استحالة سفري من القاهرة، فصرخ بي عبر الهاتف: إذهب من أي طريق، إن شاء الله تذهب على جمل.. لا يجوز ان تغيب “الأنوار” عن هذا الحدث المركزي الذي سيكون له ما بعده على مستوى المنطقة، بعد وضوح التوجه الناصري للضباط الثوار، بقيادة العقيد معمر… (نسيت باقي الإسم)، دبر رأسك!

هكذا وجدت نفسي في روما، حيث كان لي صديق حميم هو الفنان المعروف بلوحات الإبداع، حسين ماضي… وبشيء من الصعوبة وجدته في بعض المقاهي التي يقصدها المبدعون الذين يدرسون في أكاديمية روما للفنون الجميلة التي تضم حديقتها تماثيل للعديد من مشاهير الفنانين والشعراء والكتاب، من مختلف دول العالم، تعرفنا من بينها على تمثال للشاعر الكبير أحمد شوقي في الجناح المصري من هذه الأكاديمية..

وفي روما جمعتنا المصادفات بالمخرج المصري الراحل شادي عبد السلام وفريقه وبينهم محمد صبري وحسن بركات، وكانوا يجولون في أنحاء العالم لتصوير المسلات الفرعونية في العديد من العواصم، بينما تخلو القاهرة منها..

روى لنا المخرج المبدع شادي عبد السلام، الذي أخرج فيلم “المومياء” المعروف، انه ذهب لتصوير المسلة الفرعونية المقامة في ساحة الفاتيكان.. وعندما هموا بمباشرة التصوير، تقدم منهم بعض رجال شرطة الفاتيكان، وقرروا منعهم من إكمال عملهم.

وانبرى شادي عبد السلام وفي يديه الترخيص له بتصوير المسلة، فتناوله شرطي الفاتيكان ودقق فيه، ثم رده إليه وهو يقول: لكن هذا الترخيص هو من دولة إيطاليا، وانتم هنا داخل حدود دولة الفاتيكان..

كاد شادي عبد السلام وفريقه يسقطون من الصدمة، فمكافأة “المأمورية” محدودة، وهي بالكاد تكفي لتنقلاتهم والفندق والأكل..

بعد لحظات عصيبة التفت الشرطي الى شادي يسأله: هل يمكن أن ترجعوا بالكاميرا متراً الى الخلف؟

تنفس شادي الصعداء وهتف: طبعاً يمكننا أن نرجع بها متراً ومترين، إذا لزم الأمر..

وهكذا كان، تراجع المصور بالكاميرا متراً واحداً، وصرخ شادي عبد السلام: “أكشن!.” فتم التصوير بيسر، ومن دون أن يذهب ضحية نزاع حدود بين دولة الفاتيكان والدولة الإيطالية بعاصمتها روما، التي يحتل الفاتيكان قلبها بكنيسته البديعة الأبهى من متحف والتي زين سقفها وبعض جدرانها بعض أعظم الرسامين بعنوان مايكل أنجلو.

*****

… بالعودة الى “رحلة طرابلس”: ذهبت الى السفارة الليبية في روما فاذا بالموظفين قد غادروها وتركوها للفراغ.. وأسقط في يدي: فمصروف الجيب قد أوشك على النفاد، وأنا لا أملك ثمن تذكرة العودة الى بيروت.

عدت الى حسين ماضي وشريكه في البيت المتسكع عفيف الرزاز.. وهو بيت يتناوب الفنانون على تسلمه حين وصولهم الى روما، وتسليمه لمن يأتي بعضهم من زملائهم “الأثرياء” جداً القادمين لمتابعة دراستهم في كلية الفنون الجميلة..

ولقد عقدنا “اتفاق جنتلمان” أقدم بموجبه الأكل، ويوفرون لي المنامة في شقتهم الفخمة المطلة على نهر التيبر والتي لا يعرف من كان مستأجرها الأول الذي “أورثها” لمن أتى بعده من الفنانين “الأغنياء”.

وهكذا تيسر لي أن أمضي بضعة أيام من التسكع في روما الجميلة مع نخبة من الفنانين رسماً ونحتاً وتصويراً وإخراج الأفلام السينمائية الجميلة وقد جمعت المصادفة مجموعة من المبدعين المصريين واللبنانيين بينهم: شادي عبد السلام ومحمد صبري وحسن بركات، ثم المبدع بهجت عثمان ومعه المسرحي المميز ناجي شاكر، وحبيبته عنايات، فضلاً عن حسين ماضي وعفيف الرزاز ومن جمعتنا بهم المصادفات ومنهم الرسام البيروتي الأنيق محمد (مالك المنارة) كما كنا نسميه..

كانت مشكلتي أن يصلني من دار الصياد المبلغ الكافي لتذكرة العودة.. وقد تبلّغ مدير مكتب طيران الشرق الأوسط من الراحل الكبير سعيد فريحة أن يوفر لي التذكرة مع “مصروف جيب” يكفي حتى موعد طائرة العودة بعدما أعياني الوصول الى ليبيا القذافي وثورة الفاتح..

 

 

 

Exit mobile version