طلال سلمان

أيام في حياتي لها تاريخ

كثير من أيام حياتي لها مغزى أو قيمة أو معنى ولكن لأيام معينة طعم خاص ومحتوى جعلها تقاوم النسيان أو الإهمال لتبقى حاضرة في الذاكرة، ذاكرتي أو ذاكرة من عاشها معي أو في ذاكراتينا معا.

من هذه الأيام ذات القيمة يوم ولدت. تكشف ذاكرة الأهل عن حقيقة هامة ترددت على مسامعي مئات المرات حتى احتلت مكانة وترسخت. توقع الجميع بمن فيهم القابلة أن أولد، مثل خمسة قبلي، ومعي نهايتي. فاجأهم تمسكي بالحياة وإصراري على أن أخيب توقعاتهم فأعيش. وبالفعل عشت رضيعا ثم طفلا أرتدي الفساتين الملونة وأحمل على رسغي السمين إسورة مرصعة بأحجار زرقاء. عشت شهور الرضاعة وسنوات الطفولة أكاد أكون محمولا طول الوقت في حضن أو آخر. من هذه الأحضان حضن الجارة مارسيل، الوحيدة التي سمحوا لها باصطحابي في مشاويرها خارج البيت ومنها مشوار الأحد إلى الكنيسة.

ومن الأيام أيضا، أيام في فترة الطفولة المبكرة أقضي بعض ساعات نهارها أطل من كوة داخل إحدى مشربيات البيت على حركة الشارع، شارع أمير الجيوش الجواني أو بالأحرى شارع النحاسين. من المؤكد أنها تسربت إلى ذاكرتي نقلا عن الجدة جمال والخالات حتى صرت إن سئلت أنقل إلى السامعين صورة حية عن رجال في جلاليب بيضاء يدخلون إلى الجامع أو يخرجون منه والبعض منهم يتوقف عند عربة البليلة أو عند بائع البطيخ.

من الأيام، وربما كانت الأجمل، سنوات المراهقة التي قضيتها مع بعض أحلى وأطيب الخلق، شلة شارع سامي. نضجنا معا في حماية الأهل ورعايتهم لنا. في الصيف نذهب معهم إلى دور السينما المفتوحة وفي الشتاء يتركوننا نذهب إلى الدور المغلقة في وسط البلد. في نهاية هذه المرحلة من المراهقة كنت قد زرت أو خيمت أو عسكرت، أقصد عشت في معسكرات شبابية كالكشافة والجوالة، أقمناها في مناطق بعيدة وساحرة كجبال النوبة في أقصى جنوب السودان وكالصحراء الليبية. هناك في ليبيا احتفل بنا المنتصر رئيس وزرائها وألقيت أمام حكومته أول خطاب سياسي أعده بنفسي وأكلنا الكسكس والخروف المطمور. أكلتهما مرات في مرحلة أخرى من أيامي بطعم مختلف في قصر الملك المغربي وبطعم متغير في البيوت التونسية. لم تنته مرحلة المراهقة إلا بعد أن تتوجت بحكاية اختطافي مع أربعة من طلاب رحلة كلية التجارة إلى قطاع غزة. اختطفنا المستوطنون الإسرائيليون. قضينا ثلاثة أيام في سجن بير سبع عاصمة النقب. خرجنا من إسرائيل لنجد في استقبالنا العقيد محمود رياض رئيس لجنة الهدنة المصرية الإسرائيلية. كان غاضبا.

ومن أيام شبابي، أو عز شبابي حسب تعبير أهل البلد، أذكر بكل الرضا والحب أوقات نيودلهي العاصمة ودلهي المدينة القديمة. أذكر مواقع راحة واستجمام شباب الدبلوماسيين وبخاصة المقهى الإنجليزي في وسط العاصمة والنادي الرياضي الاجتماعي “الإنجليزي أيضا” في الضاحية. هناك في النادي تعرفت على فتاة في  السابعة عشر من عمرها حضرت مع أبيها. هذه الفتاة صارت بعد شهور خطيبتي ثم زوجتي. إن نسيت فلن أنسى المشعوذ الهندي الذي أوقفني في ميدان كونوت الشهير بعد أقل من شهر من وصولي إلى الهند ليبلغني بلغة إنجليزية متينة نبوءة زواجي وسفري من الهند لأعود إليها بعد عام ومعي الزوجة وطفل رضيع.

وأيام في جليد بكين في الشتاء ورطوبتها الخانقة في الصيف قضيتها تحت قيادة رجل فريد في نوعه اسمه حسن رجب. وطنيته ولغاته وكفاءته لفتت اهتمام القيادة الصينية. تلقيت على يديه بعض أهم دروس حياتي. هناك في بكين حل النضج ورزقت بطفل وحملتني ظروف العمل مسئوليات متعددة.

أيام روما لا تقارن بأيام أخرى في أي مكان. روما المدينة الساحرة. كان معي بالسفارة نبيل العربي أحد أحب الناس إلى قلبي  وأربعة  آخرين من خيرة شباب دفعتي في الخارجية. تلقيت في روما بعض أهم دروس الحياة وأساليب صنع القرار على يد نجيب هاشم، المربي العظيم والضيف الخلوق على مهنة الدبلوماسية.

تقدم بي شبابي ونضج فهمي للأمور والناس. عشتها جميعا خلال إقامتي في سنتياجو عاصمة تشيلي وبيونس آيرس عاصمة الأرجنتين. تعلمت مبادئ اللغة الإسبانية في دروس امتدت لثلاثة شهور عند قمة جبل صغير يطل على مدينة سنتياجو طلة المحب الحنون. أحببت الشعب والمدينة والنشاط السياسي فيها وتناول الشاي مع جيراني تحت تكعيبة العنب في منزلي. شاءت السياسة في أضيق معانيها أن أنتقل من سنتياجو ولم أمض بها سوى مائة يوم. تصرفت بحكمة. لم أحمل ضغائن ولكن اصطحبت مع عائلتي إلى الأرجنتين بضع ذرات من خيبة أمل.  ومع ذلك استمرت دروس الإسبانية وإن متقطعة في بيونس آيرس وخلال رحلاتي المتكررة إلى أرقى المنتجعات في القارة اللاتينية، منتجع بونتا ديل إستي في الأورجواي. أشهد بأن أيام أمريكا اللاتينية كانت مختلفة عن غيرها من أيام عملي في الدبلوماسية. العمل الدبلوماسي في أمريكا اللاتينية نزهة يومية. مواعيد العمل مرنة بلا تمييز بين نهار وليل أو بين ساعة وأخرى. هناك يصدق المثل: بلاد لا تمل.

من هناك رحلت إلى مونتريال في مهمة تأجل تنفيذها مرارا ولم تعد تحتمل تأجيلا آخر. أما المهمة فكانت استئناف ما انقطع من دراساتي العليا. عدت طالبا ظهرت على هيئته وسلوكياته علامات نهاية الشباب. كنت الطالب الثاني في ترتيب السن من الأكبر إلى الأصغر. كنت محط الفضول في محيط الدراسة بين أساتذة وطلبة. هذا الوافد من مهنة الدلال والرفاه والنعومة إلى مقاعد الدرس الشاقة والجافة والخشنة. هذه  العبارة استخدمها بالفعل في تقديمي إلى رفاق الصف مايكل بريتشر الأستاذ الأشهر وقتها في ميدان نظرية العلاقات الدولية وبالتحديد في مجال صنع القرار في السياسة الخارجية.

ومن الجامعة في مونتريال إلى القاهرة للاشتراك في تنفيذ صرح علمي وسياسي وصحفي أعتز به إلى يومنا هذا، وهو مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. أيام ممتعة تعلمت فيها الكثير عن مصر وعن الصحافة وعن السياسة كما يمارسها أهل السياسة وعن عملية صنع القرار في واقع الحال. عشتها أياما لا تنسى مع أحد أعظم الصحافيين في العصر الحديث، وقد قابلت وصادقت العشرات من كبار الصحافيين حيثما كنت وأينما عملت. كان هيكل بالفعل والتجربة والمعاشرة أعظمهم. أذكر على سبيل الذكر والتذكرة أننا سافرنا ومعنا أغلى الأعزة سميح صادق ومحمد سيد أحمد في رحلة شهر جبنا خلالها شرق وجنوب آسيا، ورحلة أخرى قمنا بها، هيكل وأنا، امتدت  لثلاثة شهور أخذتنا إلى حوالي عشرين دولة عربية قابلنا خلالها ملوكا وأمراء ورؤساء وحزبيين ومنفيين ومغتربين وصحافيين، تربطني ببعضهم  إلى اليوم علاقات وثيقة.

كنت أقترب بسرعة من لحظة منتصف العمر عندما قررت أن أستعيد بعضا من طاقة الشباب استعدادا لاقتحام النصف الثاني من العمر. وبالفعل استعدته وبدأت أعيش أياما لم أعش مثلها من قبل، هي بالتأكيد أحلى وأكثر إمتاعا للعقل وتنوعا. أيام تستحق أن أحكي عنها يوم أتخذ قرارا تأجل اتخاذه سنة بعد سنة ثم عقدا بعد عقد.

اقتربت النهاية ولا متسع في الوقت لأي تأجيل جديد.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version