طلال سلمان

أول الزعماء… وآخرهم!

نشرت في “السفير” في 8 آب 1987 ونعيد نشرها في ذكرى وفاته.

رحل لبنان ـ الصيغة، لبنان ـ الميثاق الوطني وقاعدة 6 و6 مكرر، لبنان ـ القديم كما يسميه المحدثون، محدثو الزعامة ومحدثو النعمة ودائماً بقوة السلاح، مع رحيل الرمز الأهم من رموزه القليلة الباقية: كميل نمر شمعون.

ولقد رحل كميل شمعون زعيماً، كما عاش على امتداد نصف قرن أو يزيدن بل لعله كان أكبر “زعيم” في لبنان وآخر زعيم بالمعنى الشعبي للكلمة، حتى في نظر خصومه والمقاتلين ضد أساليبه وارتباطاته بالأجنبي، وهي قديمة قدم ظهوره على المسرح السياسي، بدأت مع بريطانيا التي كانت عظمى واستمرت مع الولايات المتحدة التي صارت عظمى وانتهت مع إسرائيل التي تطمح وتعمل لأن تكون العظمى أقله، في أرضنا ومنطقتنا ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى.

وكميل شمعون هو أول مرشح لرئاسة الجمهورية، في لبنان الاستقلال العام 1943، وهو المرشح الطبيعي والدائم في معارك الرئاسات جميعاً، ولو قدر له أن يعيش حتى أيلول 1988 لكان مرشحاً أكيداً ورئيساً محتملاً،
ثم إنه أول زعيم مسيحي في الشرق، قبله كانت الزعامة في المنطقة وحتى في لبنان إسلامية على وجه العموم، وفي الجبل درزية، وكان مسيحيو الشوف يتوزعون كما الدروز بين اليزبكية والجنبلاطية، أما بعد كميل شمعون فدق صار قسم كبير من الدروز “شماعته” وكذا نسبة كبرى من مسلمي إقليم الخروب، بل وصار له حصة بين المسلمين عامة في مختلف أنحاء لبنان، أما المسيحيون فقد توحدت قيادتهم في شمعون الذي صار زعيماً للموارنة وكذا للأرثوذكس والكاثوليك وصولاً إلى البروتستانت وسائر الأقليات.

ولقد أفاد كميل شمعون من دهائه كما من ظروف البلاد والمنطقة فجمع في ذاته مجموعة من المتناقضات لا يمكن أن تجتمع في غيره، فكان بطل الديمقراطية ومرشح الجبهة الوطنية الاشتراكية العام 1952، وصار “الجبار” و”الطاغية” والبطل الصليبي في العام 1958، وكان “فتى العروبة الأغر” والمدافع الأول عن فلسطين وعروبتها ورئيس المؤتمر الشعبي فيها 1946 ـ 1948، وبطل الحلف الإسلامي ثم الأحلاف الأخرى (حلف بغداد، الحلف المشترك، مشروع ايزنهاور)، بعد ثورة جمال عبد الناصر وانفجار المد القومي العظيم في الخمسينات وأوئل الستينات، ثم “بطل” الحلف الثلاثي ورجل المارونية السياسية وقائد مسيرتها ابتداء من 1968 وعلى امتداد سنوات الحرب الأهلية بعد ذلك.

حتى حين صار للطوائف جيوشها وسبقت الكتائب إلى بناء جيش المسيحيين، والموارنة أساساً، ظل كميل شمعون زعيماً على الكتائب ذاتها وشريكاً ضرورياً لها في السلطة حتى يومه الأخير… فمن دونه تصير الكتائب حزباً وتصير “القوات” مجرد ميليشيا أما معه وبه وعبر تصدره “الجبهة اللبنانية” تكتسب هذه المؤسسات الأهلية لأن تكون قيادة للمسيحيين وزعامة المارونية السياسية في لبنان.

وفي سنواته الأخيرة كان شمعون جنرالاً بلا جيش، لكن لا جيش من دونه ولا مرة لأحد على الجيوش إلا إذا ظهر “فخامته” معه في الصورة.

لكن شمعون “الصليبي” هذا كان بتجربته الغنية وبفهمه الدقيق لواقع لبنان السياسي، وللمحيط العربي، بتأثيراته المباشرة والقومية على هذا الواقع، عنصر توازن في اللعبة السياسية التي جعلتها الحرب لعبة قمار جهنمية عُدّتها الأرض ومن عليها.

لذا كان كميل شمعون حتى في طائفيته مناوراً ومتكتكاً، وكان يعرف ـ بعكس الكتائبيين ـ إن شرط زعامته على المسيحيين أن يكون قوة بين المسلمين، ولذا كان يحرض أشد الحرص على علاقة ما مع زعامة الدروز الجنبلاطية من دون أن يقطع مع حلفائه الدائمين في الثلاثين السنة الأخيرة من اليزبكيين، كذلك فقد حافظ على علاقات ثابتة مع الزعامة الإسلامية وإجمالاً مع قوى إسلامية “حليفة” في بيروت ومدن الساحل وكذلك في البقاع والجنوب والشمال، فلقد مات وعاش وله حصة في كل طائفة إضافة إلى زعامته بين الموارنة.

ربما لهذا كان كميل شمعون عنصر توازن في السياسة اللبنانية، عنصر توازن داخل الموارنة خاصة، يمنع الصدام بين القديسين بالوراثة والقديسين بالتعيين، وكلهم مسلح، وعنصر توازن بين المسيحيين عامة، يجتذب غير الموارنة فيجعلهم يسلمون بالقيادة المارونية ولو كارهين، وعنصر توازن بين المسيحيين وبين المسلمين لأنه يعرف إن لبنان يكون بهم جميعاً أو لا يكون أبداً.

وربما لهذا سوف يحزن على غياب كميل شمعون خصومه من اللبنانيين والعرب، لأنه كان طرفاً في كل خلاف داخلي بقدر ما كان طرفاً في كل خلاف عربي، وصحيح إنه كان يبيع مواقفه بالمفرق ونقداً، ولكنه ظل ـ وإلى حد بعيد ـ ملتزماً بقانون الصراع السياسي حتى وهو يخوض في بحار الدماء التي هدرتها الحرب الأهلية.

ومع الاختلاف إلى حد التناقض الكلي معه فمن المؤكد إن كميل شمعون كان لاعباً كبيراً، ومن ثم فإن السقف سينخسف بغيابه ليصير بمستوى اللاعبين الصغار الباقين والمستمرين بقوة السلاح وبانتفاء البديل في غياب حل لأزمة المنطقة وبالتالي للمسألة اللبنانية.

ومن أسف أن لبنان القديم قد زال تقريباً، من الوجود بغير أن تتوافر للبنانيين صورة ما، ملامح ما، هوية ما للبنان الجديد، فالدم المسفوح على مذابح الطوائف وأغراض الأجنبي لا يصنع أوطاناً ولا ينجب مواطنين صالحين.

من هنا فالذين سيبكون كميل شمعون إنما سيبكون، أصلاً، غياب الصيغة البديلة لصيغة 1943 المعترض عليها،
والذي سيفتقدونه ستكون حسرتهم أساساً على افتقاد السياسة والعمل السياسي وقوانين الصراع السياسي، بما في ذلك الانتخاب وممارسة الحد الأدنى من ديمقراطية الاختيار.

فالحزن هو على الواقع المر الذي يجعل من غياب كميل شمعون، رجل الارتباط بالأجنبي والزعيم الطائفي الرقم واحد، غياباً لعنصر توازن وسبباً لمزيد من الخلل في الحياة السياسية من شأنه أن يطيل في عمر الأزمة التي تطحننا دوامتها الدموية طحناً.

ومؤكد إن كميل شمعون بين أبطال الحرب الأهلية وصناعها، إلا إنه كان زعيماً قبلها وكان يمكن أن يستمر زعيماً من دونها، ولو تضاءل دوره، أما غيره فما كان ممكناً أن يكون شيئاً مذكوراً وصاحب دور إلا بما وبها فقط.

ومؤكد أيضاً إن لبنان بلا كميل شمعون وليس هو لبنان الذي عرفناه منذ الاستقلال وحتى اليوم.

ومؤكد أخيراً إن الحياة السياسية اللبنانية لن تكون هي ذاتها بعد تغييب رشيد كرامي وغياب كميل شمعون.

فلكل زمان دولة ورجال،

وكيف تبقى للبنان دولة إذا كان “رجالها” هم الذين ينسفون احتمالات وجودها،

والمسافة بين لبنان القديم ولبنان الباقي (؟) هي بالضبط المسافة بين كميل شمعون وبين سمير جعجع وسائر الجعاجعة في الطوائف الأخرى،

لذا فالحزن سببه من بقي أكثر مما سببه غياب الذين غيبوا بالاغتيال أو غابوا بالوفاة أو اختاروا العزلة والانزواء والمنفى حتى لا يكونوا شهود زور على جريمة قتل شعب ووأد حلمه في وطن حر وديمقراطي وعربي سيد وسعيد.

 

 

Exit mobile version