طلال سلمان

أول الحروب

أيلول 1973 أوراق شخصية في القاهرة
اقتحم علينا »المعز« جلستنا في بيت أخيه بالدقي. كانت فرحته تسبق كلماته التي أطلقها متسارعة فضاعت بعض حروفها. وفهمنا أن قيادة وحدته الميدانية قد ألحقته، وهو المهندس الالكتروني، بسلاح الصواريخ. وختم بما يشبه الهتاف: أخيراً صرت في الجبهة، في مواجهتهم تماماً، ولسوف يرون منا ما لا يتخيّلون… هؤلاء الجبناء!
قال »نسيم«: احفظ حماستك ليوم آخر يا عزيزي، انني مدفون في الرمال، على خط المواجهة، منذ ثلاث سنوات… نسمع كلاما كثيرا عن الحرب، ثم »يداهمهم« الضباب فيهربون منها، وبعد حين يتجدد الكلام عن »الحسم«، ثم يطردون بعض أهم أسباب قوتنا، الخبراء السوفيات. وفر أعصابك واعمل حسابك أن لا حرب ولا من يحاربون..
ثار الجدل، فبين المشاركين في السهرة مجموعة من أكفأ الصحافيين، وبعضهم قريب من أهل القرار، وثمة واحد على الأقل ملتصق بمكمن السر.
قال أدقهم في المعلومات: الحرب واقعة حتما، وفي مدى لا يتجاوز نهاية هذا العام! ما أستطيع قوله ان الاستعدادات قد استكملت، وان السادات سيذهب إليها مضطرا لأنه لم يعد بقادر على مواجهة الضغط الشعبي.
أضاف أعقلنا وأحكمنا: الحرب واقعة حكما، وهي قريبة جدا، ولكن.. ربنا يستر! فالسادات قد يبيعها للأميركان قبل أن تحقق أهدافها المرجوة في تحرير الأرض وكسر ميزان القوى الحالي، وهو لمصلحة إسرائيل بأكثر مما ينبغي.
لمس النقاش العلاقة بين مصر وسوريا فقال »كبيرنا«: انها ممتازة، والتنسيق شامل ومن أعلى مستوى وحتى أدنى مستوى. لا يمكن لمصر أن تذهب إلى الحرب من دون سوريا، والحقيقة ان سوريا تتحمّل عنا الكثير من الأذى، فمنذ أوقفنا حرب الاستنزاف تفرغ الإسرائيليون، بطيرانهم المتفوق، لإنهاك سوريا. إنهم يغيرون عليها كل يوم تقريبا. لعلهم يستريبون أو يحاولون استكشاف ما وصلنا إليه مع سوريا. لعلهم يحاولون كشف المخبوء من أسلحتها الجديدة.
نسيت ما كنت ذاهبا من أجله في القاهرة، فأنا كنت في طور التأسيس لإصدار »السفير«، لكن القرار بالحرب أهم وأخطر، وله الوقت كله.. وهكذا طفت على أصدقائنا الكثُر في »الأهرام« و»الأخبار« ودار الهلال و»روز اليوسف«، وعلى مكاتب بعض المستشارين وكاتمي السر في المكاتب الخاصة… كما التقينا في سهرات الأنس مع الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم والعشرات من قيادات الطلبة الذين كانوا يملأون أفق مصر بصيحات غضبهم وبمطالباتهم بضرورة حسم الموقف لكي يستطيعوا أن يتبيّنوا معالم مستقبلهم:
أيعقل أن يظل مليون من شباب مصر، بينهم عشرات الألوف من المهندسين والأطباء والمتخرجين عموما، مدفونين في الرمال، لا يعرفون متى يستطيعون أن ينجزوا مهمتهم الوطنية ليعودوا فيعيشوا حياتهم الطبيعية؟!
كان على فم مصر كلها كلمة واحدة: الحرب!
وكان المصريون مطمئنين الى ان الحرب هذه المرة ستكون مختلفة، فهي أولاً ستتم بقرار منهم، ثم انهم قد أعدوا لها عدتها، »فجيش جمال عبد الناصر جاهز، وهو جيش مؤهل لأن يقتحم ولأن يحقق النصر«.
* * *
منتصف أيلول في دمشق
وصل الزميلان الصديقان مصطفى الحسيني ومصطفى نبيل من القاهرة، وقررنا أن نذهب معاً لاستكشاف الجو في سوريا.
في دمشق رتب لنا فيصل حوراني عن طريق اللواء محمد الشاعر، الذي كان يتولى مسؤولية تحصين الجبهة في الجولان، أن نتوغل داخل الخطوط الأمامية حتى حدها الأخير.
التقينا بضباط كبار وصغار، وبرتباء وجنود بسطاء وفقراء وجوههم بلون الأرض. كانوا يعرفون أن العدو متفوق عليهم بسلاحه، لكنهم كانوا واثقين بأنهم قادرون بالشجاعة على إلحاق الهزيمة به: متى تواجهنا فلن تنفعه التكنولوجيا! المهم أن يتاح لنا أن نقاتل رجلاً لرجل، دبابة لدبابة!
أما »الأهالي« فكانوا يشهدون، بين الحين والآخر، معارك غير متكافئة في الجو: تغير الطائرات الإسرائيلية الحديثة جدا والمزودة بآخر مبتكرات التقنية العالية الأميركية، فيواجهها الطيران السوري، ولكن الفارق في درجة التطور بين السلاح الأميركي والسلاح السوفياتي لا يمنح الطيار السوري فرصة متكافئة مع عدوه، فتتساقط الطائرات السورية بدوي للعجز عظيم.
التقينا ببعض المسؤولين، ناقشناهم، واحتدم الجدل، فلم نسمع أكثر من كلمة: انتظروا! علينا أن نتحمل هذه الخسائر اليوم، لكن هذه الحال لن تدوم. فقط اصبروا قليلاً.
كان ثمة مؤشرات عديدة الى أن أمرا خطيرا يدبر بعيدا عن الأنظار وعن ألسنة الصحافيين. وكان الجمهور السوري في مزاج قريب من المزاج المصري: لا بد من الحرب مهما كانت النتائج! لا بد من كسر الجمود القاتل!
ورجعنا، نحن الثلاثة إلى بيروت، وعيوننا على الساعة، كان إحساسنا بأن الموعد قريب، وأقرب مما نتصور.
ذهبنا إلى قيادات المقاومة الفلسطينية، وقيادات العمل الوطني في لبنان، نتناقش ونتبادل المعلومات.
همس أحد القياديين الفلسطينيين: في تقدير الرفاق السوفيات، قرار الحرب متخذ، والموعد محدد، ولكنه سيكون المفاجأة التي تضمن النصر. وبالاستنتاج فإن هذا الموعد قد يكون بعد عيد الفطر مباشرة، وبالتأكيد قبل الأضحى.
وسرت في بيروت حكاية »بين العيدين« باعتباره الموعد السري للحرب الموعودة.
* * *
السبت الأبيض
بعد الثانية ظهرا بقليل، هتف لي صديق: هل سمعت إذاعة دمشق؟!
قلت وأنا أفكر بما يفكر فيه: بل سمعت إذاعة القاهرة. إنه البيان ذاته، بالحرف تقريبا، أليس كذلك؟!
قال: إنها الحرب! انه اختيار عبقري للموعد! السبت، وبعد الظهر، وفي رمضان،
أضفت: وفي »العيد الكبير« إسرائيلياً!
ودخل اللبنانيون إلى بيوتهم ليتسمروا أمام المذياع أو التلفزيون، وليعيشوا أحلامهم وهي »تعبر« أمامهم إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، أو تتقدم في قلب الصعب لتحرر الأرض السورية في الجولان.
* * *
امتد العيد يوماً، يومين، ثلاثة أيام طويلة..
وفي صبيحة اليوم الرابع دهم الناس إحساس غامض بأن الأمور لا تسير وفق منطقها الطبيعي، وأن ثمة خطأ ما أو ارتباكا ما، أو طارئا ما يعدل في الخطة وفي التوقعات.
كانت الطائرات الإسرائيلية تتساقط كالعصافير في جنبات دمشق وفي أنحاء أخرى من سوريا، بعدما أخرجت الصواريخ الجديدة من مكامنها.
وكانت حماسة الناس، في كل أرض عربية، قد تجاوزت حدود التوقع والمعقول.
كان العرب، من أقصى المغرب إلى أقصى اليمن، يتمنون بل ويحاولون أن ينضموا إلى المقاتلين في معركة التحرير.
ها هي الحرب العربية الأولى تدور رحاها، أخيرا، وها العرب يمسكون قرارهم بأيديهم ويتقدمون فوق أرضهم نحو أمانيهم وأحلامهم المجهضة.
لم تتأخر الحقيقة الكارثة في الاعلان عن نفسها!
ففي اليوم الرابع كان قد بات واضحا أن حرب تشرين قد اغتيلت وهي في يومها الثالث.
كانت الأرض مغطاة بجثث الشهداء والقتلى وحطام الدبابات والطائرات والسيارات العسكرية.
لكن الكارثة كانت أفظع بكثير: فعلى أرض الجبهات كانت تتكدس أيضا جثث لأمان غاليات: جثة القرار العربي بالحرب، جثة إرادة القتال، جثة العمل العربي المشترك الذي تأكد مرة أخرى بالدم.
* * *
التوقف عند خط النصر..
لم تنته حرب تشرين بانتصار كان يستحقه القرار العربي الشجاع بخوضها، وكان يقدر عليه المقاتلون العرب الممتازون الذين خاضوا في دمائهم وهم يخترقون المواقع الطبيعية وخطوط المواجهة القوية والمعززة بأفتك الأسلحة وآخر مبتكرات العلم والتي كان يتحصن فيها العدو الإسرائيلي على الجبهتين المصرية والسورية.
لقد وئدت احتمالات النصر في اليوم الثالث لتلك الحرب المجيدة، حين تمّ تجميد الجيوش المصرية المندفعة بنجاح فاق أي توقع، عند الكيلو 10 بعد مجرى قناة السويس، ولم يسمح لها بالاستمرار في تنفيذ الخطة الأصلية المبلغة لشريكه السوري، أي بالتقدم حتى بلوغ الممرات في عمق سيناء، مما يمكّن الجيش السوري من تطهير المنطقة التي اجتاحها بالقفزة الأولى وتثبيت مواقعه الجديدة عند خط الرابع من حزيران (1967).
كان مقدراً لجغرافيا المنطقة أن تستعيد صورتها الأولى، لو تم ذلك.
وبالتأكيد فإن تاريخ المنطقة كان سيختلف، جذريا، بعد تلك الحرب عنه قبلها، وربما كان التعديل هنا سيمتد ليبدل في وقوعات تاريخ العالم في الربع الأخير من القرن العشرين.
هل هي الخديعة؟! هل هو الخوف من أن تضيع نتائج القفزة الأولى؟ هل هو التواطؤ مع صديق العدو؟! هل هو الخوف أو الحذر أو الارتياب في »عدو العدو«؟! هل هو التشكك في رفيق السلاح؟! هل هو التهيّب من نصر عظيم لا يقدر من حققه على استيعابه؟!
لقد رحل أنور السادات، بعدما دفع من دمه ضريبة المسؤولية عن هذه الأسئلة المعلقة، وعن الوقائع التي توالت على الأرض وفي السياسة فقلبت نصر الأيام الأولى الى هزيمة عسكرية فتحت الباب أمام سلسلة من التراجعات والانحرافات والصفقات المنفردة التي ضيّعت جوهر القضية ومكّنت لإسرائيل في الأرض العربية بحيث باتت القوة المهيمنة، تتحكّم بمصائر شعوبها، مستندة دائما الى تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية، وإلى استعداد العديد من الأنظمة العربية للاستسلام والركض وراء سراب »السلام«!
الأسئلة شلال متدفق، والأجوبة لما تتكامل برغم مرور السنين، لكن الأرض فضاحة والنتائج السياسية التي تدفع مرحلة ما بعد الحرب أقسى من أن تحتمل.
ومن السهل، الآن، ومن على بُعد سنوات ثقيلة بمرارتها والانتكاسات والتراجعات الناجمة في معظمها عن التوقف قبل خط النصر، أن ننظر الى حرب تشرين وكأنها »هزيمة« أخرى مني بها العرب في سياق صراعهم المفتوح مع عدوهم الصهيوني.
ان النتائج المأساوية التي ترتبت على محاولة تعليب تلك الحرب وحصرها ضمن إطار التكتكة السياسية، أو ما سمي بحرب التحريك، لاستدراج تدخل أميركي فعال يأخذ العرب الى »التسوية« الممكنة بدلاً من استمرار اندفاعهم الحماسي نحو »تحرير« مستحيل، تتجاوز كل الافتراضات أو التصورات ناهيك بالحسابات الباردة لتوازن القوة في تلك الظهيرة المباركة للسبت الواقع فيه السادس من تشرين الأول (اكتوبر) 1973م، العاشر من رمضان 1394ه.
لقد انتهت الحرب بقرار دولي جديد (338) فيه تراجع كبير عن مضمون القرار 242 الذي جاء نتيجة لحرب 1967.
وبغض النظر عن أنه لا القرار الأول قد نُفِّذ ولا الثاني سينفذ، فالمؤكد أن الهزيمة الجديدة قد صدعت البنيان العربي كله.
خرجت مصر من الصراع فاختل توازن الجسم العربي، والعقل أساسا، وفقد العرب السيطرة على التداعيات، مما مكّن لعدوهم القومي أن ينال منهم جميعا، وقد فعل.
كوارث ما بعد الحرب المجهضة..
ويمكن إدراج قائمة طويلة من الكوارث القومية في خانة نتائج الهزيمة التي انتهت إليها الحرب المجهض نصرها الباهر وهو وليد طري العود بعد، من بينها:
1- الحرب الأهلية في لبنان التي ما كانت لتنفجر في ظل انتصار عربي، لكن الهزيمة لا تبررها فقط بل وتوفر لها الأرضية الخصبة و»المبررات المنطقية« للأفرقاء كافة للانخراط فيها بعقلية »يا قاتل يا مقتول«.
ولعل قيادة المقاومة الفلسطينية التي استبعدت عن المشاركة في حرب تشرين قد نظرت الى لبنان على انه »جبهتها« الأخيرة، والمتكأ الأخير لمحاولة الدخول في مشروع »التسوية« الذي كان قد بات برنامجا سياسيا معلنا لنظام السادات في مصر، مع تأييد ضمني له من أكثر من طرف عربي.
المهم أن المقاومة الفلسطينية قد تورطت في الحرب اللبنانية بأكثر مما يطيق لبنان وبأكثر مما يجوز لها أو تسمح ضرورات الطريق نحو هدف تحرير فلسطين، فخسر العرب لبنان أيضا.
وليس من المبالغة أبدا القول إن لبنان الضحية الأولى للانتكاسة الخطيرة لحرب تشرين.
2- المنهج الساداتي في التفرد الذي كسر الإطار العربي الجامع: الجامعة العربية (التي ارتحلت لاجئة إلى تونس)، مؤسسة القمة العربية، التضامن العربي ولو بحده الأدنى الخ.
3- في ظل هذا الانحراف الذي أوصل السادات الى القدس المحتلة ثم الى معاهدة الصلح المنفردة في كمب ديفيد، وانشطار العرب حوله، تورط النظام العراقي في خطيئة لا تقل خطورة حين اندفع يهاجم إيران الثورة الإسلامية، مستولدا خطرا وهميا جديدا بديلا عن الخطر الاسرائيلي الحقيقي، وموفرا الفرصة لكي يكمل السادات ما بدأه فرحا بكون العرب قد انشغلوا عنه وانهمكوا في »حرب جديدة« تخلي له الجو.
4- كانت الأوضاع العربية تتردى بصورة منهجية، وتكشف عجز الجميع عن وقف الانهيار، وكان طبيعيا أن يبادر العدو الإسرائيلي إلى الهجوم.
وهكذا كانت ضربة المفاعل النووي العراقي في العام 1981.
ثم كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية منه في صيف 1982.
5- وبرغم عدم منطقية الاختيار، فإن ياسر عرفات اختار أن ينفي المقاومة الفلسطينية مجدداً إلى تونس بدلاً من الانتقال إلى دمشق لكي يواصل المعركة، أو ليحفظ للصراع إطاره السياسي والجغرافي والتاريخي (والعسكري) الطبيعي.
وكان بين النتائج الفورية تمزق المقاومة وتشتت قواها، وسيادة مناخ من الضياع السياسي الذي لما تنته آثاره.
6- في الفترة نفسها، ومن خلال احتلالها بيروت، فقد تمكنت إسرائيل من التحكم بلبنان، وهكذا فرضت ترئيس حليفها المحلي (آنذاك) بشير الجميل، فلما اغتيل بعد ثلاثة أسابيع من انتخابه في ثكنة عسكرية محاصرة بالدبابات الإسرائيلية، تم ترئيس شقيقه أمين الجميل.
كان المسرح يتبدى جاهزا لمحاصرة سوريا، بعد تحول عرفات من حليف طبيعي لها الى حليف لكل خصومها وعودته الى طرابلس لقتالها، هذا بينما كان أمين الجميل يحاول »تحصين« نفسه باتفاق 17 أيار مع العدو الإسرائيلي، ودائما تحت الرعاية الأميركية.
وهكذا تجددت الحرب الأهلية في لبنان، واستمرت جولات عنفها في تصاعد، خصوصا وقد عطل أمين الجميل انتخاب رئيس جديد للجمهورية في صيف 1988.
وكان على اللبنانيين أن ينتظروا النجدة السورية لإنهاء هذا الوضع الشاذ، وهي لم تأت برغم التوصل الى اتفاق الطائف إلا بعد تورط صدام حسين في مغامرته الجديدة: اجتياح الكويت.
7- يمكن إدراج اجتياح الكويت في خانة النتائج غير المباشرة لانقلاب النصر في تشرين إلى هزيمة، لعلها أقسى بكثير من هزيمة 1967… ذلك أن العدو قد هبّ لتثبيت هذه النتائج العسكرية السياسية عربياً ودولياً، ولقد نجح في ذلك بأكثر مما يستحق.
وهكذا عجز العرب عن الاتفاق على موقف موحد من اجتياح صدام حسين الكويت فانقسموا جبهتين متواجهتين.
8- كانت القضية المركزية قد انفرطت كما انفرط عقد التضامن العربي بمؤسساته كافة. وهكذا ذهب العرب إلى مدريد وفودا منفصلة وممنوعة من التواصل، خصوصا وان كل دولة من دولهم كانت قد تلقت رسائل ضمانات أميركية خاصة بها لوحدها من دون الآخرين (وربما على حسابهم)..
ولم يكن للفلسطينيين مقعد في مدريد، إلا كملحق بالوفد الأردني.
وهكذا ساد منطق التفاوض المنفرد، ومن ثم منطق الاتفاق المنفرد، وهو الذي كان كلف أنور السادات حياته قبل عشر سنوات فقط.
9- بعد ذلك جاء اتفاق أوسلو الذي أنهى القضية الفلسطينية كقضية عربية جامعة، وحوّل الفدائيين الى شرطة إضافية تحرس الاحتلال الاسرائيلي من »المتطرفين« الفلسطينيين، وحوّل »قيادة الثورة« الى سلطة محلية لا تملك من أمرها شيئا، وحوّل القضية القومية الرقم واحد الى مشكلة أمنية إسرائيلية تقرر فيها تل أبيب وحدها.
وكان منطقيا أن يلحق الأردن، وقد وفرت له القيادة الفلسطينية الغطاء السياسي، بركب الاتفاقات المنفردة، فكان »اتفاق وادي عربة« الذي أخرج إلى السطح مجموع الاتفاقات التي كان العرش الأردني قد عقدها بالفعل، ومن دون إعلان، مع العدو الاسرائيلي، عبر اتصالات ومفاوضات لم تنقطع طوال نصف قرن من الزمان، بدأ عشية إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
10- ثم كان التحلل العربي من الالتزامات القومية، وبذريعة مزدوجة بدايتها: »نرضى للفلسطينيين ما يرضونه لأنفسهم«، أما ختامها فيقول: »لن نكون ملكيين أكثر من الملك، فطالما صالح الفلسطيني فلماذا نستمر بثياب الحرب نقاتل في حرب لا قضية لها ضد إسرائيل، بل ضد الأميركيين، بل ضد العالم كله؟«.
وهكذا قامت السفارات ومكاتب التمثيل العربية، في تل أبيب: الأردنية بعد المصرية، ومكتب التمثيل المغربي بداية، ثم التونسي، فالعُماني وأخيراً القطري.
* * *
الصراع يبقى مفتوحاً
مع هذا كله، فما زلنا نرى حرب 1973 أول الحروب.
إنها الحرب العربية الأولى… ولو أنها لم تكتمل بنصر في مستوى القرار بإعلانها.
وإسرائيل تحاول، وبكل السبل والوسائل، أن تمنع الحرب العربية الثانية، ولو كاحتمال.
إنها تحاول اجتثاث المقاومة الفلسطينية في الداخل، وهي تستخدم الآن الشرطة الفلسطينية (لا سيما السرية منها) كرديف لجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية.
وهي تحاول تشديد ضغطها على النظام المصري للحد من ممانعة المصريين ومقاومتهم للتطبيع وعدائهم الذي يزداد عمقا لإسرائيل والإسرائيليين.
وهي تجتهد لحصار قلعة الصمود الأخيرة في سوريا ومعها لبنان، وتحاول استدراج الأردن الى حلفها الجديد مع تركيا، ودائما تحت الرعاية الأميركية.
وهي تتمسك باحتلالها جنوب لبنان، حيث تواجه مقاومة حسنة التدريب والتجهيز، وتتمتع بروح معنوية نادرة المثال، حتى لا يسجل عليها أنها انسحبت من أرض احتلتها بالقوة من دون اتفاق ينهي حالة الحرب أو العداء مع عرب آخرين…
إن إسرائيل تتصرف الآن، وتحت قيادة حكومة التطرف بقيادة نتنياهو، وكأنها امبراطورية الشرق الجديدة، تملك قراره السياسي والعسكري والاقتصادي (بما في ذلك النفطي)..
انها تريد أن تثبّت مسيرة التاريخ عند حدود هيمنتها.
وإسرائيل ذاتها هي التي ستوفر أسباب الحرب الجديدة كلما بهتت الأسباب القديمة.
وسيذهب العرب، مرة أخرى إلى الحرب، إن لم يكن غداً فبعد غد، إن لم يكن بعد سنة فبعد سنوات، إن لم يكن بعد جيل فبعد جيلين.
إن الصراع ما زال مفتوحا وسيبقى مفتوحا، في انتظار موعد جديد مع قرار مجيد كذلك الذي أكد إمكان النصر في تلك الظهيرة المباركة من السبت الواقع فيه السادس من تشرين 1973 العاشر من رمضان 1394ه.
وكجهد متواضع كانت هذه التحية للقرار المجيد ولأبطاله، لا سيما أولئك الذين قدموا أرواحهم رخيصة من أجل تنفيذه، ومن أجل أن يؤكدوا القدرة على الإنجاز.
وما لم يتأكد بالمطلق اليوم سيتأكد غداً..

نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ 6 تشرين الأول 1998

Exit mobile version