طلال سلمان

أنيس صايغ .. يسبقنا إلى طبريا

كنا على موعد، من أجل فلسطين باعتبارها الاسم الحركي للعروبة، وشغلنا تأخرك فما تعوّدت إخلاف مواعيدك، أنت الدقيق حتى إرباك الزملاء ورفاق المسيرة… ولم يكن مبهجاً أن نلتقي لوداعك، وقد علّمتنا تجاربك المتعددة مع العدو الإسرائيلي أنك محصن ضد الاغتيال، وقد تكرّرت المحاولات غير مرة، وصمدت لها وقد افتديتنا وافتديت توثيق حقنا في فلسطين بإحدى عينيك وبعض يمناك، أيها الأنيس.

ومنك تعلّمنا أن أقوى سلاح في يد عدونا الإسرائيلي هو وقتنا المهدور في المساجلات حول «السلام» بينما إسرائيل تصادر زمننا وتطرحنا خارجه نتبادل الاتهام بالخيانة والتفريط كما بالتطرف والرغبة في التوريط، نسعى إلى البيت الأبيض في واشنطن، ونستعطف من فيه، لنكتشف ما نعرفه مسبقاً من أن إسرائيل تمسك بالقرار هناك، فتذهب التنازلات عبثاً، ثم نسعى من جديد بتنازلات جديدة تذهب بالقضية المقدسة إلا قليلاً.

بديهي بعد ذلك أن يوسّع العدو مدى احتلاله لأفكارنا وآرائنا وسياساتنا وتقديراتنا، لتسهل عليه مصادرة المزيد من أرضنا المقدسة واستقدام آلاف آلاف المستوطنين لطمس هوية فلسطين وتشريد أهلها، لتقوم «دولة يهود العالم» فوق ركام التضحيات الغوالي والآمال المغتالة والأحلام التي لم تجد من ينهض بها، والمسؤوليات التي قصّر النظام العربي عن القيام بها، وبسبب من ذلك بادرت إسرائيل إلى حماية هذا النظام وتأمين الشروط الكفيلة بإدامته حتى اغتيال آخر أمل عربي بغد أفضل.

لقد عجزنا، أيها الداعية الذي يجد الوحدة مقدسة كما الصلاة، عن إقامة دولة كل العرب، أو بعضهم كمرحلة أولى، ولو عبر صيغة اتحادية مرنة، توحّد مع قرارهم مجهودهم من أجل حقهم في الوجود… وهي مهمة تبدت، ذات يوم، ممكنة، حتى لقد اختلفنا على التسميات والصيغ العملية لاستكمالها، مفترضين أننا قد فرغنا من تحصين الأساس، قبل أن تدهمنا الهزيمة فتذهب بالفكرة ثم بأهلها المخلصين وفي مقدمهم جمال عبد الناصر الذي قتله تعجل الرد لاستعادة ما ضيّعته الغفلة فدهمه الموت المثقل بالأسرار.

التقيتك، مرة، أيها الصديق، في القلعة نصف المهدمة في «ام قيس». كانت بحيرة طبريا تمتد سماء إضافية تحت أنظارنا، وأنت ترمق بعينك السليمة وقد غشاها الدمع بيتك، أي كل البيوت فيها، وما حولها، وتمشي مع ذكرياتك إلى بيروت التي وصلتها مع أهلك لاجئين، وأبوك القس قد جاء أصلاً من حوران السورية ثم التقى والدتك بنت البترون اللبنانية فأسّسوا العائلة العربية بتجاوز الهوية والدين والطائفة ليكونوا نواة وحدوية صلبة قبل أن يتشرّد أفرادها في دنيا العلم والشعر والبحث الأكاديمي والتوثيق والاقتصاد والطب، وفلسطين في القلب.

قلت بكلمات دامعة: ليس أجمل من طبريا إلا فلسطين مكتملة.

وقلت وأنت تشير إلى القرية الهاجعة في حضن تل والبحيرة تجلّلها ببهاء حلم: هي لي بالأمس، وهي لي اليوم، وستكون لي غداً وإلى يوم الدين. من قبل اختطفها غزاة كثر، لكنها حفظت فلسطينيتها واندثروا… ولقد حاول الصليبيون الضرب على الوتر الطائفي، لكن فلسطين سمت بوطنية أهلها، فالدين لله مرجعه، لكن الوطن هو الأولى بحماية هويته. والوطن بأهله. ولسوف يستعيدنا.

تأملت بهدوء موقع بيتك، أي كل البيوت فيها، وما حولها، ولحظت التغييرات التي أدخلها الاحتلال على الجغرافيا أو أصابت الناس، كما سمعت… وران الصمت علينا لحظات: أتعرف؟ بين أسباب سعادتي بمجال نشاطي أنني ساهمت في توثيق كل ما يتعلق بفلسطين.

استذكرت الجهد العظيم الذي بذلت لحماية الذاكرة العربية ولو بعنوان فلسطيني، والذي استحق «مكافأة» إسرائيلية قاتلة: طردا ناسفا!

واستذكرت ذلك الإنجاز الباهر ممثلاً بمركز الأبحاث الفلسطينية، ونتاجه الممتاز، على وفرته، وذلك الحشد من الكفاءات ممن عملوا فيه بدأب وإخلاص ودقة ونظام صارم منع عنهم زيارات المتطفلين أو أعضاء «جمعية قتل الوقت»، وما أكثرهم… فكان منطقياً، والحال هذه، أن تخصه إسرائيل بأكثر من غارة، قبل أن تنهب كنوزه العملية ثم تنسفه ليكون واحداً من أعظم شهداء فلسطين.

أسقط في يد المقاتل على ألف جبهة، لكنه قرّر أن ينهض ليبدأ، مرة جديدة، مستفيداً من فيض النتاج الذي كان أصدره المركز كنواة… وهكذا عمل لمعهد البحوث والدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية، وأصدر عنها مجلة «شؤون عربية» لمدة عام، ثم تولى الإشراف على «الموسوعة الفلسطينية» وتولى رئاسة تحريرها ورئاسة مجلس إدارتها لبعض الوقت، دون أن يتوقف عن التأليف والكتابة المبشرة بغد ما بعد التحرير.

***

أنيس صايغ وُلد مناضلاً وعاش مناضلاً. لذا فقد قاتل البيروقراطية والروتين والمحاباة والشخصانية في العمل الثوري، فاعترض وعارض ورفض، بعدما يئس من محاولات تصحيح منظمة التحرير من الداخل، ثم أغلق بابها خلفه وعاد إلى الناس وإلى العلم وإلى التبشير بضرورة «الثورة في قلب الثورة».

كان يعرف إلى حد الإيمان أن فلسطين لن تعود بالمفاوضات والمساومات والمبادرات التي تكشف حال الضعف العربي فتزيد الإسرائيليين تطرفاً.

وكان يعرف أن إسرائيل لا تضيّع وقتها، فهي تلتهم الأرض الفلسطينية على مدار الساعة، بالمستوطنات التي استقدمت إليها مئات الألوف من المستوطنين، وجدار الفصل العنصري الذي تصادر به ما تبقى، ثم تطارد العواصم الكبرى بضغوطها اليومية على مراكز القرار فيها، مستفيدة من انعدام التأثير العربي، إن لم نقل من «التواطؤ» العربي على القضية المقدسة وأهلها الذين انتشروا باتساع الدنيا يطلبون الملاجئ وجوازات السفر وإعاشة وكالة الغوث، ويبقون فلسطينيين.

وقبل عام، حين هاجمت قوات الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة، بتواطؤ علني ومكشوف مع أنظمة العجز العربي وضمنهم السلطة التي لا سلطة لها في رام الله، والتي تكمن أهميتها في توقيعها باسم منظمة التحرير، قال أنيس صايغ: اليوم تكاملت محاولة اغتيال فلسطين وأنا منها وفيها!

وليست مصادفة أن يسقط الدكتور أنيس صايغ صريعاً مع الذكرى الأولى للاجتياح الإسرائيلي قطاع غزة، وقتل الأطفال والنساء والعجائز والبيوت والمدارس والجامعة والأشجار والأحلام، من دون أن يوفروا وكالة الغوث الدولية، وأن يستخدموا كل محرّم من السلاح، وأن يمضوا في حربهم لأكثر من ثلاثة أسابيع دون أن يتحرك أحد من أهل النظام العربي للمساعدة ولو بالنجدات الطبية كالأدوية والضمادات… بل إنهم وقفوا جميعاً ينتظرون أن يرفع أهل غزة الأعلام البيضاء استسلاماً! لكن أهل غزة صمدوا كما صمد من قبلهم الشعب في لبنان ومقاتلو «حزب الله» طليعته، حتى «تفضلت» إسرائيل بوقف النار إكراماً للرئيس الأميركي الجديد، أوباما، و«تسليفه» هذه «المكرمة»، كي تستوفيها أضعافاً مضاعفة من المساعدات والمساندات والتعامي عن مصادرتها المزيد من الأرض للمستوطنات، وعن خرقها آخر الاتفاقات حول القدس وقد سارعوا إلى طمس ملامحها الأصلية بالكتل الاستيطانية التي تمهّد لجعل المسجد الأقصى جزيرة محاصرة بوحوش المستوطنين وقوة الأمر الواقع.. المسلح!

في أجواء ميلاد السيد المسيح، وفي ذكرى العجز العربي عن صد العدوان الإسرائيلي على غزة، ومع تفاقم الصراع بين «السلطتين»، ولا فلسطين، ذلك هو الموعد الذي اختاره أنيس صايغ لمغادرتنا، وقد أبقى لنا الدليل إلى الثورة بالعروبة، وإلى التحرير بالمقاومة الشاملة وبكل قدراتنا وليس بالسلاح وحده.

أنيس صايغ سبق في العودة إلى طبريا، لذا لم يهتم بشكليات الوداع.

نشرت في “السفير” في 29 كانون الأول 2009.

Exit mobile version