طلال سلمان

أنت رجل

لا أفهمكم يا معشر الرجال. عبارة تكررها امرأتي في نهاية كل حوار هادئ أو ثائر يدور بيننا. أفسرها مرة رغبة من جانبها للإطراء ولكن دون أن يحسب عليها ذات يوم من أيام الحساب أنها تجاوزت فمدحت. معظم المرات أفسرها نية مبيته للانتقاد أو الذم. وفي مرات يحلو لي أن أتجاهل أني سمعتها فأقضي منفردا وقتا محببا استغرقه في محاولة الإجابة عن سؤال أجعله على قدر الإمكان صعبا. سؤال كان دائما يدور حول غرابة أن تعيش المرأة مع الرجل لآلاف عديدة من السنين وما تزال تشكو صعوبة فهم معشر الرجال. كل من عرفت من نساء يشتكين هذه الصعوبة عندما يتحدثن معي عن رجالهن. وللحق لم أقابل رجالا كثيرين واجهن صعوبة مماثلة في فهم من عاشروا من نساء. أنا شخصيا لم أجد في سيرة حواء وآدم دليلا واحدا يثبت أن أيا منهما تصرف بشكل أو قال كلاما يجعل منه أو منها مخلوقا يصعب فهمه.

***

التفت صديقي ناحيتي وعلى وجهه ابتسامة بسيطة لا يرسمها شخص متهم بأنه صعب الفهم. استأذن ليتكلم فقال “عندي مساهمة لعلها تضيف جديدا إلى سؤالك. الإضافة كالسؤال دهرية الزمن. تعرف يا عزيزي أننا منذ أن خرجنا إلى الدنيا صبيانا ونضجنا رجالا وبدأنا نهرم شيوخا، ونحن نتلقى رسائل وتوصيات وأحيانا أوامر وتكليفات تحرضنا على المرأة. لم أعرف رجلا في مكان جدي ومكانته وامرأة من طراز جدتي وأمي إلا وغرسا في عقل كل طفل وصبي في العائلة أسبقيته على أي مخلوق ينتمي لجنس النساء. أمي التي أمرت بأن أحتل مكانا متميزا ومكانة رفيعة في بيت العائلة هي نفسها التي كثيرا ما سمعتها تشكو صعوبة فهم معشر الرجال. هي وغيرها من النساء غرسن في أولادهن الذكور بذرة الرجل الذي يريدون. بذرة رجل بمواصفات محددة وسلوكيات معينة ثم ما أن يكتمل في الصورة التي خططن لها إلا واندفعن بصوت واحد يستنكرن صعوبة فهمه”.

***

أفهمك جيدا أيها الصديق. أفهمك وكأنك تزيد السؤال تعقيدا. تعالى معي نسلك طريقا آخر قد يساعدنا في حل معضلة صعوبة فهم المرأة للرجل. رأيتك تكاد ترفض ادعاء المرأة صعوبة فهم الرجل بقولك هي التي علمته منذ طفولته كيف يهمل الأنثى ويستهين بقدراتها ويتكبر عليها، فكيف بالله تكتشف بعد أن نضج وكبر أنه يستعصى على فهمها. كيف يمكن لإنسان أن يصنع شيئا ويبذل في صنعه الغالي والرخيص ويسهر عليه بالليل ويرعاه بالنهار وفضله على كل ما أنتج قبله وبعده ليعترف بعد حين بصعوبة السيطرة عليه والتنبؤ بتصرفاته لعجزه عن فهمه. هل كنت تقصد بكلامك أن الأنثى حين أرادت إثبات أحقيتها الكاملة والمطلقة في المنتج الذي صنعت اكتشفت أنه غير قابل للتحكم فيه أو الاستحواذ عليه، فأصدرت حكمها بأنه عصي على الفهم. أرادته طوع بنانها هي لا طوع كل البنان. تغلبت في رأيك وربما في رأيها الطبيعة والسليقة وانتهى الرجل مخلوقا متمردا أو في الحد الأدنى ناكرا للجميل.

***

المسألة ليست بهذه البساطة. نشأنا أنا وأنت وخلق عديدون على رسم لرجل بدائي ممسك بإحدى اليدين بعصاة غليظة وباليد الأخرى شعر أنثى يجرها على الأرض. هذا الرسم معدلا أو مخففا أو منمقا عاش ملازما لنا يعكس بدرجات متفاوتة حقيقة العلاقة بين الجنسين عبر جميع عصور التاريخ. هي إحدى قصص الخليقة وهي أيضا إحدى أهم قصص الحياة، قصة الرجل المهيمن على المرأة. أما كيف هيمن ويهيمن فهذه تستحق في حد ذاتها فصلا خاصا في الكتاب الخالد، كتاب العلاقة بين الرجل والمرأة. بكثير من الإبداع وبفارق القوة العضلية وبالمراوغة وآداب العشق وفنون الحب والحرب وظروف تربية النشئ وكتابة بعض صفحات أصول الدين ثم تفسيرها والتبشير بها استطاع الرجل أن يهيمن. تردد، ونحن أول من يردد أن الأنثى، لعبت دورا بارزا في هذه العلاقة أولا: عند استدعاء هيمنة الذكر وثانيا: عند تطويع هذه الهيمنة أو أقلمتها مع ظروفها وثالثا: عند الرغبة في استبدالها أو التمرد عليها. لذلك وجدت صعوبة جمة يا صديقي في كل مرة حاولت فيها تبرئة المرأة من مسئوليتها عن هيمنة الرجل.

***

صعب أن تفهم شخصا لا يعبر بوضوح عن عواطفه. أتفهم حيرة المرأة مع رجل لا يكشف عن حقيقة مشاعره تجاهها. هل هذه حقا من طبائع الرجل. كثير من الرجال يخفون عواطفهم. يبكون، إن بكوا، منفردين وفي خفية. أهي من الطبائع أم أنها من تقاليد تنشئة الصبيان في العائلة. قيل إن الرجل لا يحب أن يجاهر بالحب الحقيقي. سألت فسمعت عجبا. سمعت أنه يعتبر المجاهرة بالحب ضعفا لا يصح أن يلصق به. سمعت آخرا يخشى أن تستخدم المرأة ضده إعلانه الحب لتحقيق أغراض أخرى وكأن العلاقة علاقة حرب أو منافع وليست علاقة حب. سمعت أحدهم يبرر صمته عن إعلان حبه باحترامه الشديد لهذه العلاقة وخوفه عليها. أعرف كثيرين يعترفون بضعفهم أمام بشائر العلاقات العاطفية المستجدة أو المتجددة رغم التزامهم علاقات خاصة أطول أمدا. انقسم النساء. أعرف منهن من قررت التغاضي عن الأمر طالما ظل الرجل متمسكا بالعلاقة الخاصة بينهما. أخريات يرفضن بكل الحزم الممكن مضحيات بالرجل وبالعلاقة التي ربطتهن به. في رأيهن أن هذا الرجل غير مستعد أو ناضج لعلاقة ثنائية حتى إن وعد.

***

صديقي، أشكرك على تلبية الدعوة للإسهام في مناقشة هذا الموضوع الشائك. الرجل كما تقول قد يكون بالفعل أقل تعبيرا عن عواطفه من المرأة. هذا رجل نشأ في بيئة نسائية فعواطفه مدربة ومؤهلة وفي الغالب منضبطة. هذا رجل حظي وهو طفل بمعاملة متميزة ثم كان هو المراهق الأفضل. هذا رجل سيعيش بقية عمره منتظرا وضع سي السيد في البيت والمدير المهيمن في المكتب. هذا رجل لن تملأ حياته وتشبع حاجاته إمرأة واحدة، كل النساء حق من حقوقه وظالمة في رأيه المرأة التي تريد أن يكون لها وحدها.

***

عزيزي، استمتعت كالعادة بالحديث معك. لي كلمة أخيرة أنهي بها دوري في النقاش واضمنها تحذيرا. أخشى أن يفهم قارئ أو قارئة بعض مداخلاتنا على أننا نعمم آراءنا وتحليلاتنا على كل النساء من ناحية وعلى كل الرجال من ناحية أخرى. أقول لك ولهم أن هناك رجال ورجال وهناك نساء ونساء. يا عزيزى لن أنسى أستاذا في الأربعين من عمره كان يعلمني الفرنسية وأنا ابن السادسة عشر. أساء الرجل إلى بداياتي إساءة بالغة. أذكر أننا نزلنا بعد الدرس نتمشى في أحد شوارع القاهرة الخديوية الرائعة في ليلها ونهارها، أراد الاستطراد في اختبارات اللغة فاسمعني نصيحة بقيت إلى يومنا هذا مشعلا ينير طريقي ويكشف أخطاء ومخاطر التعميم في الحكم على الناس والأشياء، قال ما قد تبدو ترجمته إلى العربية على النحو التالي: “النساء يا صديقي الصغير سواسية، ففي العتمة وعلى الفراش لا تفترق واحدة عن الأخرى”. كم كان أستاذي كاذبا وجاهلا وظالما.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version