طلال سلمان

أنا كمان بحب الحكي عن الماضي

جربت القراءة والكتابة عن المستقبل إلى حد أنني أقنعت زملاء وأصدقاء فأقمنا للمستقبل مركزا بحثيا. لم تدم المتعة طويلا. اكتشفنا أن للاهتمام بالمستقبل شروطا يجدر توافرها ولم يتوفر لنا أغلبها ومنغصات يصعب تفاديها وفشلنا في تفادي أغلبها. كانت نتيجة هذا الاكتشاف أنني توقفت إلا قليلا عن الكتابة في مستقبل الأمور وأكثرت من الكتابة عن الماضي.

الآن أعترف أنني أحب الحكي عن الماضي. شجعني اليوم على إصدار هذا الاعتراف مقال كتبته الأستاذة ليلى الراعي ونشرته ذات يوم من أيام الأسبوع الماضي وتعتذر فيه للرومانسية. تقول ليلى أنه لم يعد هناك وقت أو مجال يسمح بالعيش في أجواء الماضي بكل تفاصيله الصغيرة والكبيرة، “فهي دائما قريبة من القلب حينما تفيض بي هذه المشاعر، وتأخذني الذكريات بكل ما فيها من لحظات محببة”.

أحسنت ليلى التعبير عما يجول في داخلي معظم الوقت. أنا لا أعتذر. يعني مثلا يحدث لي كثيرا أن استيقظ وفي خطتي وترتيب أولويات يومي الكتابة عن مصير بلد من البلاد أو شعب من الشعوب تعرض أيهما لكارثة أو لحرب أو لمجرد شقاق. فجأة أجد نفسي مسحوب الإرادة، روحا وجسدا وقلبا، نحو ماض محبوب يختزن حكايات شتى عن تدشين علاقات، منها مثلا علاقات أقمتها مع كتب أو أقامتها كتب معي.

أذكر جيدا وبكل الوعي والحب أيامي الأولى مع الكتب. أذكر سعادتي وإحساسي الفريد في نوعه، إحساس شاب صغير في عمره كبير في فضوله يفتح شيئا لم يفتحه أحد قبله. كنت في السابعة عشر ضيفا شبه منتظم على مكتبة للاستعلامات الأمريكية بحي جاردن سيتي. يعرفني بالاسم أمناء المكتبة في كافة أقسامها، المراجع وصالة القراءة وقسم الدوريات وغرفة الموسيقى الكلاسيكية. ذات صباح كنت كعادتي أجلس للقراءة في غرفة الدوريات عندما جاء إلي الركن الذي اخترته منذ أول يوم لي في المكتبة المستر ليتش الأمين العام للمكتبة وسحب مقعدا من بعيد وهو يستأذن. جلس وفاتحني بسؤال عن أوقات فراغي وسؤال تال عن استعدادي لتوفير عشرين ساعة أسبوعيا للعمل في المكتبة مقابل أجر معقول يدفع لي كل أربعة أسابيع. فهمت وقتها أنني سوف أشغل وظيفة متدرب، أما الترجمة الدقيقة للوظيفة كما ظهرت أمامي في كشف أجور ومرتبات موظفي المكتبة فكانت “صبي مكتبة”. ينص قرار تعييني على أن أقوم باستلام شحنات الكتب الجديدة التي تصل كل ثلاثة شهور. أراجع عناوين الكتب مع العناوين المدرجة في مذكرة التكليف الصادرة من السفارة إلى واشنطن لشراء الكتب وإرسالها لنا. بعد التأكد من مطابقة مذكرة التكليف مع محتويات صناديق الشحنة أسلم الكتب إلى رئيس قسم التصنيف وأنفذ ما يطلبه من مساعدة فنية. أساعد أيضا رئيسة قسم المراجع وأمين مكتبة الموسيقى وأمينة مكتبة الأطفال. كل هؤلاء تكلفوا بمهمة تدريبي لمدة أسبوع قبل مباشرة العمل معهم.

متعة لا تعادلها أي متعة حصلت عليها في سنوات العمل الدبلوماسي. مرة أخرى أذكر بكل الخير ليلى الراعي التي كتبت تقول “أنتمي إلى هذا الجيل الذي يقدر الورق.. يعشق ملمسه، ويعرف رائحته.. تقلب صفحات الصحيفة فيصدر هذا الصوت الذي يرن في الأذن فيبعث البهجة”. أظن أنها كانت من اللحظات النادرة في عمق الأحاسيس المرافقة لها، لحظة فتح صندوق يحتوي على ما لا يقل عن مائة كتاب، لحظة انطلاق رائحة الورق مختلطة برائحتي الحبر والصمغ.

تدربت وأنا في هذا العمر الصغير على فن استخدام المراجع حتى صرت هدفا يستعين به باحثون من طلبة وأساتذة في مختلف المجالات. لم يكن هناك جوجل أو ويكيبيديا إنما قامت فلورا رزق بدورهما قبل أن نتعرف عليهما.ساتذهأساتذو

فلورا كانت كالأسطورة في علم المعلومات بمفاهيم ذلك الزمن وأنا شخصيا عشت مدينا لها بما علمتني إياه. لا أعرف أين هي الآن إنما أعرف أنهم في هارفارد سمعوا عنها فسعوا إليها حتى حصلوا عليها.

تدربت أيضا في المكتبة على ما لا يقل أهمية من صناعة البحث عن المعلومات وتوفيرها لمستحقيها من طلبة وأساتذة. تدربت على العمل مع آخرين ومن الجنسين ومن كل الأعمار ومن معتنقي الديانتين. كنت هناك أخا وزميلا وصديقا وابنا ومرؤوسا ورئيسا، كنت عضوا فاعلا في مجتمع صغير. لعبت كل هذه الأدوار في سلام وأمان وهنا ورضا، أجواء لم يتوفر لي مثلها بنفس العمق والاطمئنان في أي موقع آخر عملت فيه. وما أكثر المواقع التي عملت فيها مرورا أو سنينا عديدة. جربت مهنا شتى. اشتغلت بالمكتبات حتى سن العشرين فكانت أول وأروع نصيب، واشتغلت بالدبلوماسية وصاهرتها وتعلمت فيها ما لم أكن أعلم، واشتغلت بالتدريس في مرحلة الدراسات العليا وخلالها كنت أساعد مع طلاب آخرين في مطعم الجامعة مقابل أجور رمزية. اشتغلت أيضا بالبحث العلمي غير القابل للاختلاط البشري وبالصحافة القابلة لاختلاط بشري مكثف ومتنوع ولظروف وتحديات تراوحت بين القسوة البالغة والتعاطف المفرط. هنا في هذه المهنة اجتمعت خبراتي التي تشربتها عبر ستة عقود وما يزيد. عقود التقيت فيها بأروع الناس خلقا وبأفظعهم طباعا. عشتها كلها وأنا واع لحقيقة تعلمتها صغيرا. الأيام لا تكرر نفسها. ما فات منها لن يعود. عشتها واع لحقيقة أخرى. لا أندم ما حييت على قطار مر على محطتي ولم يتوقف. يومها كتبت صديقتي بغضب “كنت على المحطة في انتظار قطارك. مر القطار صارخا في صخب ولم يتوقف. هل كنت وراء اختيار قطار لا يتوقف في محطتنا؟”.

نعم كانت، وما تزال، مرحلة حافلة بالآمال الكبار والفرص الهائلة ولكنها في الوقت نفسه كانت، ولا تزال، مرحلة الفرص الضائعة بامتياز والوعود الزائلة بطبيعتها. أنا غير عاتب على زماني. كان كريما. لم يبخل وأنا لم أسرف. كنت كزماني كريما. أعطيت أكثر مما أخذت وكلما ضاقت بي في الحاضر سبل السعادة عدت إلى الماضي أسحب من رصيدي المودع في خزائنه. يا صديقتي: لن أعتذر للماضي فهو مدين لي بالكثير من أيام ابتهاجه وليالي فرحه وسعادته.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version