طلال سلمان

أنا راحلة

أنا ضحية الزمن الجميل. أنا من جعله جميلا. كان زمنا ككل الأزمنة حتى يوم التقينا. عشت سنوات المراهقة بحلوها ومرها. عشت باستمتاع كل أحلامها وبالشكوى وخيبة الأمل كل إحباطاتها. كم من خيوط غزلناها ثم نسجناها صداقات إلى اليوم باقية. تأقلت وانطفيت بعدد مرات النجاح والفشل. أتألق فتتألق دنياي. أجدت فنون نشر السعادة أم كانت سعادتي من نوع لا يعرف الحدود. عرفت في الوقت نفسه كيف أخفي حزني وخيبة أملي وتعاستي. كنت واثقة. كنت واثقة من نفسي ومن اختياراتي ومن قدراتي. جمعت في شخصي غير الضعيف هوايات عديدة واشتهرت بين صديقاتي بأنني صاحبة فراسة في فهم الذكور وهم صبيان، واستمرت الفراسة إلى أن صاروا رجالا وصرنا نساء. أحسنت دائما اختيار الرجل المناسب للحظة والرجل المناسب للنزهة والرجل المناسب لرحلة أطول من النزهة والرجل المناسب للعمل. وعندما حان وقت اختيار رجل العمر كنت واثقة من أنني كعادتي سوف أجد الرجل المناسب.

***

تذكر طبعا يوم التقينا أول مرة. تذكره لكثرة ما حدثتك عنه. يومها قررت أنك الرجل المناسب. قالوا تسرعت. أقول لا، لم أتسرع. كنت فعلا الرجل المناسب. فراستي في الرجال لم تقصر أو تخطئ. كنت يومها الرجل المناسب. أنت مثل كل شيء وكائن حولي، أنا نسجتكم جميعكم من خيوط أنا بنفسي غزلتها. منكم جميعا صنعت الزمن الجميل. أنا صانعته وصائغته، أنا التي نحتته أصناما نقدسها وصاغته ألحانا تشجينا وأخرجت صورا تثير حنينا وكتبت وحكت روايات تخدرنا. أنا الروح التي نزلت في كل كائناتي وأشيائي لنعيش معا هذا الزمن، ننعم بالفرص التي كانت تزين أحلامنا. عهدنا كان أن نعيش معا كل لحظة إلى نهاية العمر. لا نفارق زمننا الجميل ولا ندعه يتخلى عنا فيرحل أو يغيب.

***

مرت علينا سنوات كثيرة. أرجع إلى البيت من عملي أسرع الخطى وأستحث السائق ليتفادى الشوارع المزدحمة لأصل قبلك. أبدل ثيابي بثياب كانت تروق لك. أعد عشاء سريعا أو لعله غداء لكلينا أو لواحد منا. أتعمد أن يكون فيه بعض ما تحب. لا تأكل إلا قليلا وما أكلته لم يحظ بإعجابك أو لم تهتم. نجلس لنتحدث. أنا أتكلم وأنت لا تصغي إلا نادرا فتعليقك لا يمتُّ بصلة قوية إلى روايتي عن الخلاف الذي نشب في مكتبي بين المرءوسين. أنقل الحديث إلى مسائل مالية فلا ترد وأنت الذي أصبحت تهتم بالمال بعد سنوات من الترفع عنه دخلا أو حيازة أو حسابا. أحكي عن عملي فتبتسم مستحسنا وتعود إلى ما كنت تفعل أو لا تفعل. لم تكن بارد الإحساس في زماننا الأول. وقتها كان مديحك يسبقني وكلماتك الدافئة تصقلني ونظراتك الملتهبة تذيبني وأثواب نومي التي اشتريتها من أجلك تهنئني على اختياري لها من بين عشرات. راح الزمن. أنت لا تمدح ولا تثني ولا يصدر عنك سوى كلمات باردة وإنْ مهذبة. أثوابي للنوم لا تراها. كنت تسأل عندما ترى جديدها وتمد يدك تتحسس قماشتها وتتعجب لنعومتها. نسيت كيف تتعامل مع أثواب نومي.

***

تذكر كيف كنت أقرأك من قبلتك. شفتاك لم تجيدا حراسة سر ما يدور في عقلك. كم من مرة ضبطتك شاردا وكنت تعترف وتعتذر. لم أشعر يوما بالإهانة لشرودك، فالشرود كان إحدى علاماتك. في المحاضرات كنت تشرد، وفي السينما كثيرا ما نبهتك إلى مشاهد ما كان يجب أن تفوتك. أنت نفسك كنت تسلمني مقود السيارة خشية أن تشرد ونحن على الطريق السريع إلى رحلة على الساحل أو صاعدين في الجبل. هل تذكر يوم الامتحان الشفهي. شردت فما كان من الأستاذ الهندي وكان مشرفا عليك إلا أن طلب من زملائه الممتحنين منحك فرصة دقائق وكوبا من القهوة الأمريكية قبل أن يعودوا إلى أسئلتهم. كنت معك ولكن من وراء حائط زجاجي.

نادرا ما كنت تشرد خلال قبلة وكثيرا ما كنت المبادر ودائما كنت مبدعا ومتفوقا. لم تعد المبادر وتراجع أداؤك. صارت قبلتك كقبلة الضيف المحترم حين توديعه أو قبلة شقيقي المستعجل دائما. زادت مرات الشرود. لازمني في البداية الشعور بالإهانة. نبهتك ولم تنتبه. تغلبت على نفسي وسألتك إن كانت أخرى تسربت إلى حياتك تشاركني فيها. سألتك أيضا إن كانت مشاعرك تجاهي بدأت تبرد أو بردت بالفعل. تعللت كعادتك مؤخرا مرة بضغوط العمل ومرة بمصاعب الحياة ومرة بتقلبات المزاج. وللغرابة تعللت مرة بقسوة النظام الحاكم وتدخله في شؤوننا اليومية.

***

يقولون: الرجل الناجح محبوب من الناس وأولهم زوجته. يقولون في نفس النفس إن المرأة الناجحة في عملها غير محبوبة من الناس وأولهم زوجها. أنت نجحت والناس بالفعل تحبك وتهابك وتتكالب على لفت انتباهك لهم، وأولهم أنا. أنا أيضا نجحت. كسبت حبا من بعض الناس وليس أكثرهم وخسرت حبك. حقيقة لا أفهم العلاقة بين نجاحي وانحسار حبك. أنا متوهمة بالتأكيد. كنت في زمننا الجميل فخورا بنجاحي تماما كما كنت دائما مزهوة بنجاحك. بقى زهوي وفتر فخرك.

تذكر، ولا شك، حماستك لحقوق النساء. أنت نفسك كنت ورائي محفزا وملهبا وملهما. أراك اليوم رجلا آخر. تخليت عن قضايا الفقراء والكادحين. كنت في صف العدل، كل أنواع العدل. كنت مصدر عزتي بين زملائي وأصدقائي. خجلت وطأطأت الرأس بينهم عندما سمعوك تبرر الظلم والقمع وتدافع عن القيود. أنت الذي حطمت قيودا وذقت عذابا من أجل الحق والحرية. كنت تسألني عن المقهورات والمقهورين وعن أهالي الغرقى من المهاجرات والمهجرين. تطلب مني مرافقتك لزيارة هؤلاء وغيرهم من التعساء وأصحاب الحق الضائع والعاطلين ونعود إلى بيتنا ووجهك تتبادله في الثانية الواحدة سحابة حزن وومضة فرح وسعادة. تخليت عنهم.

***

أنا راحلة. هذا الرجل لم أختره. لم أختر رجلا يجعلنى أبلل مخدتي كل ليلة بدموع التعاسة والألم والمهانة. لم أختر رجلا يشرد أو يفكر في غيري وهو يقبلني، لم أختر رجلا لا يفرح لنجاحي بل لعله لا يتمناه إلا لنفسه. اخترت رجلا اشترطت عليه أن أكون موجودة في أحلامه، في كل أحلامه لا يستثني منها حلما. أنا راحلة. هذا الرجل الذي اخترته لم يعد يحلم بي.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version