طلال سلمان

أمّا بعد، هل تنتصر غزّة لفلسطين؟

عدوان دام 48 يوما، وهدنة تطول أو تقصر، جاءت بشروط فرضتها المقاومة على العدو. تفاصيل ما حدث تحدد مسار ما سيأتي، وحدها معالم “اليوم التالي” سترسم وجه فلسطين الجديدة. هل هناك من أعدّ لتحديد وجهة فلسطين ما بعد السابع من أكتوبر؟

فور توقف نيران الحقد، ووسط بيوتهم التي سويّت بالأرض، من بين أجساد أحبائهم المتحلّلة، ينتصب أبناء غزة ببداهة لا يعرفها سواهم، يشرعون على الفور في إعادة صناعة الحياة وتفاصيلها. يتضورون جوعا وعطشا، وألما، مشبعين بيقينهم بأنهم أصحاب حق، “نموت ولا نرحل”.

ففي السابع من أكتوبر، هرع الإسرائيليون إلى قائمتهم التي تشمل الجرائم المخالفة للقوانين والأعراف والطبيعة الإنسانية كلها، وصاروا ينفذونها حرفيا، رامين إلى اغتيال حاضر فلسطين وغدها. الأطفال، المدنيون، المرضى، المصابون، الطواقم الطبية، الصحافيون، البيوت، الأفران، مياه الشرب، المستشفيات، المدارس، دور العبادة، الجامعات، الأشجار، الكهرباء، الاتصالات، وسائل التنقّل: حتى الحصان الذي كان ينقل جثامين الشهداء قُتل.

أسرٌ أبيدت بأكملها، أحياء تحولت إلى ساحات رمادية بأحجار متراكمة وأشجار سلخت جذورها من باطن الأرض. أحياء كانت مصنوعة من وجوه وأسماء وضحكات وروائح وقصص.

لا رقم ثابت للشهداء بعد. مازال هناك من يرزحون تحت ركام منازلهم. مازال هناك جرحى يذوون في غياب الدواء والمعالج. مازال هناك من سيستشهد جوعا أو عطشا، أو من الأوبئة التي ملأت سماء القطاع وأرضه. مازال هناك من يعاني من حروق الأسلحة الجديدة التي كان يتعين اختبارها قبل طرحها في أسواق الحروب في العالم.

لا تقديرات بعد لحجم الأضرار، في النفوس، وهول الدمار المتعمد.

لا أحد في غزة نجا من حفلة الجنون الإسرائيلية، التي تمت بدعم الولايات المتحدة وبأسلحتها، ومن خلفها أوروبا كالعادة (باستثناء اسبانيا وبلجيكا).

توجد تقديرات مبدئية لحجم بعض خسائر العدو: هم الذين قتلوا المستوطنين في الحفل الموسيقي، هم قصفوا المنازل في المستوطنات، هم فشلوا ، على تفوقهم في نوعية الأسلحة وكميتها، في تحقيق هدفهم في القضاء على المقاومة أو بتحقيق أي نصر فعلي على الأرض، هم هربوا من أرض المعركة خوفا من شبان حفاة برشاشات شبه بدائية وقلوب مصنوعة من الفولاذ، هم ظهروا علنا مرددين أن العرب “حيوانات بشرية”، “لا يستحقون العيش” ، مطالبين بـ “إحراق غزة”، و”طرد سكانها إلى شتى أنحاء العالم”، و”الحرص على أن نساءهم لن تلدن أجيالا جديدة تهدد إسرائيل”.

خسروا التأييد غير المشروط بين شعوب العالم. فرضت إسرائيل تعتيما على غزّة، وحجبا لأي صورة أو معلومة، فمنعت الصحافيين من دخولها، وفرضت رقابة على وسائل الإعلام الإسرائيلية، متجاوزة ما يفعله أي حاكم عربي. رافقتها في التعتيم القاتل وسائل الإعلام الغربية وأخرى كثيرة عربية، وفاتها أن جيلا جديدا لم يعد يعتمد على الصحافة والإعلام التقليديين لاستقاء الخبر، فهو جيل وسائل التواصل الاجتماعي. جيل بمفاهيم خاصة، تبدأ بالموقف من قضايا التغيير المناخي، ولا تنتهي بالقدرة على قياس العدالة بمعاييرها الفعليّة، وليس بمعايير المصالح. جيل له قضايا، وفلسطين أبرزها.

وكلما أمعنت إسرائيل في جرائمها، كلما بهتت صورة الدولة الضحية، الناجية من المحرقة والمحاطة بالأعداء الذين يريدون رميها في البحر، على الرغم من أن بعضهم يغرقها اليوم بالنفط وبعائداته.

وقد اتبع مسؤولو العدو وصفتهم التقليدية: نقتل، نكذب، نسيطر على الشاشات، نسلب العقول الغربية: “قتلوا أطفالنا”، “الإرهابيون”، “لن نسمح لهم”، “سوف يندمون”، “لن يبقى لهم وجود”.

وإذا كان بطشهم الحربي ساحقا، إلا أن الإداء السياسي فشل في حشد الكوكب من خلفهم كما جرت العادة من قبل. حكومة يمينية، كادت تسقط قبل السابع من أكتوبر، ومجتمع متصدع، اجتاح أفراده قاعات المغادرة في المطار مع طلقة الرصاص الأولى. نجحوا فقط في ابراز الشرخ المتنامي عالميا بين المجتمعات وبين حكامها، لدى العرب، وفي الغرب أيضا.

في زمن يشهد التخبط التاريخي المعتاد المقرون بسقوط عقائد وأفكار سياسية سائدة قبل بروز أخرى تحلّ محلها، تسود أزمات اقتصادية كبرى تضرب الطبقات الوسطى (أساسا) وتلك المعدمة، فيجتاح اليمين السياسي، والتعصب الديني، عددا كبيرا من دول العالم (الأرجنتين، هولندا وغيرهما مثلا)، وتذوب الفروقات بين الأحزاب السياسية المتنافسة، يسارا ويمينا، فتصبح متماهية. تعمّ أحداث وتغييرات تشكل مخاضا للآتي الجديد. وإلى جانب ذلك كله، تتغير حكما قواعد “اللعبة”، بفعل نشاط الممهدين لصورة الغد.

لم تخسر إسرائيل “الحرب”، وهو في الواقع عدوان. لكن صورتها تهشّمت. ليس في جرائمها في غزة ما هو جديد. ضرب المدنيين والأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس والحرمان من الماء والطعام الخ. هي تفعل ذلك في كل عدوان. الفارق هذه المرة كان حجم الخراب والأذى، ووصول صوره إلى العالم بوضوح، فيما غُيّب ما كانت تقترفه في الضفة الغربية مستغلّة انشغال العالم بغزّة.

تعددت التحليلات: إسرائيل تريد إخلاء القطاع للتخلص من أهل غزة العصاة، الذين لا يستكينون لحاكم. إسرائيل تريد إخلاء شمالي غزة من أجل الغاز في بحرها، ومن أجل “قناة بن غوريون”.

قُدّمت أسباب كثيرة للعدوان، إلا أن المؤكد أن من بين الأسباب رغبة غريزيّة فوقية جارفة بالاقتصاص من “الحيوانات البشرية” الذين تجرأوا على مهاجمة مستوطني دولة “الجيش الذي لا يقهر”. والمؤكد أيضا إصرار المحتلين على الأذى بكل ما زودهم به أسيادهم من أسلحة جوية وبرية وبحرية. دم، دمار، عيثوا في الأرض خرابا، لا حدود ولا محاسبة لانتقامكم.

وعلى هامش هذا الغضب العارم والاستقواء، شعور مبطّن بالخوف: إنه الهجوم الأكبر منذ 1973. خوف خفي دفع برؤساء غربيين لزيارة العدو كمن بعود مريضا، ولتزويده بحاملة طائرات تهدد الفلسطينيين واللبنانيين معا، وبأسلحة أكثر فتكا، وبوعود بأن الأمر عابر…

واستأنفت الأنظمة حول العالم حروبها ضد فلسطين وقضيتها، العرب يمنعون شعوبهم من التظاهر فتتحول مدرجات ملاعب كرة القدم إلى ساحات للهتاف لغزة وسائر فلسطين. الفضائيات العربية تبيّن الحدث كل بحسب ميول (ضغائن) ملّاكها من أمراء وملوك، وهم أيضا لم يفهموا بعد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي. الغرب يسمح بالتظاهر، على الرغم من محاولات الحظر في البداية، ويلاحق الأفراد على تعليق نشروه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويُطرد آخرون من وظائفهم بسبب جملة تعاطف مع أطفال يتعرضون لمجزرة، أو بسبب تسمية ما يحدث باسمه: إبادة جماعية.

ومن بين خسائر إسرائيل عدم اكتراثها ومعرفتها لحجم التغيير داخل حماس نفسها، أو التمييز بين العسكر والساسة داخل حماس.

حماس “الساسة”، ولدى تحولهم إلى سلطة حاكمة، مارسوا السيئات التي تمارسها أي فئة تتسلم الحكم. حماس “العسكر” لهم تجارب مختلفة، وانجازات مختلفة. هم يتقنون قواعد اللعبة الجديدة، هم يتقنون ما يفعلونه وقد بدأوا بالإعداد له قبل سنين. قابلوا النار بالنار، صدوا الغزاة (برا)، احترفوا لعبة الإعلام حتى أضحى الناطق باسمهم يسمى بقائد الأمة، لجأوا إلى الهجمات الالكترونية فشلّوا بعض القطاعات الإسرائيلية الرئيسية واخترقوا موقع وزارة “الدفاع”.

والملثمون الذين روجّت إسرائيل بأنهم “داعش”، كانوا يمازحون النساء والأطفال من الذين اختطفوهم في 7 أكتوبر. أما المختطفون، فكانوا يودّعون الملثّمين بوّد كبير بعد نحو خمسين يوما أمضوها معهم. في المقابل، كان الإسرائيليون يطلقون سراح النساء والأطفال المعتقلين وأيديهم مكبلة، مانعين أهاليهم ومواطنيهم من الاحتفال بحريتهم، مطليقين نيرانهم عليهم، قاتلين بعضهم.

والحفاة الملثمون الذين تصدّوا، بقلوب من فولاذ، لأعتى عدو، لم يلينوا أو يغفلوا عن تفاصيل اتفاق “الهدن” المبرم مع العدو: أي خرق لما تم الاتفاق عليه يقود مباشرة إلى توقف العملية برمتها، وأي تجاوز لأي تفصيل يصار إلى الردّ عليه بالمثل، من موقع الندّ.

بدا المقاومون أكثر صلابة، وجهوزية وواقعية. وبدا العدو متخبطا، يشن معركة بلا خطة عسكرية واضحة، ويتخبط وسط أكاذيبه وتضليله وحيرته.

لكن ذلك كلّه، وغيره الكثير مما لا يتسع تعداده، أصبح معروفا.

ما سلف هو تمهيد لما سيأتي: هل لدى المقاومة خطط عملية أو قدرة للبناء على ما حققته لتستمر في معركة تحرير بقية فلسطين وبناء وطن؟ أم أن إسرائيل ستنجح هذه المرة أيضا في الخروج من ورطتها؟ هل ستتمكن حماس العسكر من إيجاد صيغة للتلاقي أولا مع قادتها السياسيين، وثانيا مع السلطة في الضفة، وثالثا مع حضن سياسي عربي للمضيّ قدما في ما تم إحرازه وتثبيته عمليا وسياسيا؛ أم أن المصالح الشخصية للأطراف المذكورة كلها ستتغلب على المصلحة الوطنية مجددا؟ هل ستتمكن “هبة العالم” لقضية التحرر الفلسطيني من صناعة تاريخ جديد أم أن القوى الرأسمالية العالمية الكبرى ستنجح مرّة أخرى في اثبات هيمنتها على إرادة الشعوب؟ هل سيكون مصير السابع من أكتوبر مشابها لمصير الثورات العربية التي فشلت في رسم مسار غدها، فخلّفت احباطا ويأسا ويقينا ازداد ترسخا بالعجز واستحالة التغيير؟

**

لقد رموا وجه غزّة بماء النار، مجدّدا.

لكنّ غزّة تعلّم الحياة وشروط صنعها. غزّة تقاوم العدوان، باللحم الحيّ، بالأسلحة محليّة الصنع، بالإيمان بالحق وبالحب وبالحياة، بالإصرار على المضي في الطريق حتى آخره، إلى الجليل، ليس لأنه ليس لديها ما تخسره كما يوحي المغرضون، بل لأنها عصية على الخسارة، وعصية على الزوال.

شبح المجاعة والأوبئة يخيم على غزّة، ورائحة الموت تعمّ القطاع. وغزة تجول واثقة تضمّد جراح الجسد والروح وتستعد لشمس الغد منشدة: “سأصير يوما ما أريد.”

**

هامش شخصي: لكنك لو كنت هنا، معي، لكنت مسحت بعض ماء النار عن وجه “المباركة فلسطين”. 

Exit mobile version