طلال سلمان

أمن الغرب في لحظة فارقة

اللحظة بالفعل فارقة فالرؤى لم تكن متباعدة كما هي الآن والتوقعات عن المستقبل تجاوزت حدود الخيال العلمي. وقف الناس مشدوهين إعجابا واستنكارا وارتباكا أمام عبارة أطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ليعلن موت الحلف دماغيا.

في الوقت نفسه كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي خطابا أمام مجلس الأمن الروسي يحذر فيه صناع قرار الحرب والسلم في الاتحاد الروسي من الخطر المتجدد الذي يهدد أمن روسيا. جاء تحذيره مركزا في ثلاث نقاط. تحذر الأولى من التوسع عموما في عضوية النادي النووي ملمحا إلى أن الناتو يتغافل عمدا عن جهود دول جديدة تسعى لحيازة أسرار القوة النووية. تحذر الثانية من أن البنية التحتية لحلف الأطلسي تقترب من “حدودنا”. يقصد بوتين القول أن القائمين على قيادة الناتو تجاوزوا المحظور حسب التفاهمات الأمنية بين الطرفين. يحذر ثالثا من كثافة الجهود التي يبذلها الآن المخططون العسكريون في الحلف الأطلسي نحو تحقيق هدف عسكرة الفضاء الخارجي.

في مناسبة أخرى اجتمعت في برازيليا قمة دول مجموعة البريكس المشكلة من البرازيل وروسيا والهند والصين واتحاد جنوب افريقيا. هناك في قلب الأميركتين، عالم كان إلى عهد قريب يبدو بعيدا عن الاهتمامات الأمنية لدولة آسيوية، راح الرئيس الصيني شي يخطب في القمة محذرا من وضع دولي مشبع بعدم الاستقرار ومحاط بصعوبات تحول دون توفر عنصر التأكد، الذي هو ضرورة لا غنى عنها لصانع القرار الأمني. انتهز الرئيس الصيني فرصة وجود الرئيس الروسي ليحثه على مأسسة التنسيق الاستراتيجي بين الصين وروسيا لتحقيق ما يلي، أولا: صيانة وحماية المبادئ التي تحمي عمل منظومة العلاقات الدولية، ثانيا: تأكيد الموقف المعارض لإقامة نظام دولي أحادي القطبية. ثالثا: الاستمرار في مناهضة سياسات التدخل في الشؤون الداخلية للدول. رابعا: ضمان السيادة والأمن لكل دول العالم. خامسا: العمل المشترك لتوفير بيئة دولية عادلة ومنصفة.

لاحظنا وقتها كيف استفاد الرئيس بوتين من فرصة الرد على الرئيس الصيني معيدا التأكيد على أن الدولتين تحتفظان بتوافق هام ومصالح مشتركة للمحافظة على الأمن والاستقرار الدوليين وسوف تستمران في المحافظة على دعم سبل التواصل الاستراتيجي بيينهما. لاحظنا أيضا كيف أن جهات في الدولتين أو في إحداهما على الأقل سربت معلومات عن أن تحديث الأسلحة في الترسانة الروسية الراهنة قد تجاوز نسبة السبعين بالمائة، وأن روسيا واعية تماما بكل ما تخطط له عسكريا الولايات المتحدة في افغانستان. جاءت أيضا الإشارة واضحة للنشاط العسكري في طاجيكستان وبخاصة في مجال التشويش الالكتروني على مختلف نظم إطلاق الصواريخ والطائرات المسيرة.


هنا لا يفوتني أن اربط بين الاهتمام الصيني والروسي بمنطقة وسط آسيا في برامجهما الأمنية وبين ما أعلنه الرئيس التركي الطيب اردوغان في مؤتمره الصحفي المصغر الذي عقده عقب عودته من رحلته “المنصورة” إلى قمة الناتو في لندن، قال إنه يستعد ليعقد في تركيا بعد أيام قليلة مؤتمر قمة لدول وسط آسيا المعروف بقمة قلب آسيا. المثير في هذه الحال معرفة النوايا التركية وتوقعات الرئيس اردوغان من المؤتمر بالنظر إلى الأدوار المتعددة للغاية التي صارت تمارسها تركيا في أوروبا والمتوسط والشرق الأوسط ووسط آسيا في آن واحدة. سوف يكون مثيرا أيضا، بل وهو بالفعل مثير الآن، أن نعرف علاقة كل هذا بالسؤال الذي نسعى في مقالنا هذا للإجابة عليه، في أي اتجاه تميل دفة قارب الأطلسي، نحو سياسات تنم عن عقل غائب أو ميت، أو على العكس وكما يستدل من تصريحات الرئيسين بوتين وشي وخطاب الأمين العام للناتو في افتتاح قمة لندن، نحو منظومة أمنية غربية فاعلة وقوية؟


المعروض من مواقف وسياسات من جانب أهم الأعضاء في الحلف لا تساعد في التوصل إلى إجابات سريعة تتعلق بمستقبل أداء الحلف. ما نزال أمام طرفين رئيسيين تسببا في الارتباك الراهن، دونالد ترامب من ناحية والسياسة الفرنسية من ناحية أخرى. لا يستطيع محلل أن يقرر أن لأمريكا اليوم وتحت حكم الرئيس ترامب سياسة واحدة محددة المعالم تطبقها مع حلف الأطلسي وغيره من مؤسسات وأفكار ابتدعها رؤساء أمريكا الذين جاؤوا بعد الحرب العالمية الثانية. لا ننكر كذلك أن بعضا من سياسات أمريكا الخارجية ما زالت تتأثر بأفكار ومبادئ صاغها الآباء المؤسسون، منها على سبيل المثال العلاقات مع أوروبا. تتردد كثيرا كلمات منقولة عن الرئيس جورج واشنطن في خطبة الوداع تحذر الأمريكيين أن يبتعدوا عن إقامة تحالفات دائمة مع أي جزء من العالم الخارجي. هناك تراث من الشكوك في العلاقات مع أوروبا لم يزل مقيما في أذهان الطبقة السياسية الامريكية. أضف إلى هذا الوضع الموروث والكامن القاعدة في علوم الاستراتيجية التي تفترض أنه في السياسة كما في الدفاع والأمن لا توجد، أو لا يجب أن توجد، أحلاف مقدسة أو أحلاف غير قابلة للتغيير. ثم أنه على أرض الواقع يصعب إنكار أن شيئا لم يتغير في منظومة الأمن الغربي. نعرف مثلا أنه قبل انهياره كان الاتحاد السوفييتي القوة الاقتصادية الثانية في العالم بينما لا يتجاوز حجم اقتصاد الاتحاد الروسي الآن حجم اقتصاد ولاية تكساس الأمريكية. نعرف أيضا أن أوروبا في 1949 كانت مضعضعة القوة ومعرضة للاجتياح بكل بساطة لولا الإسراع بإقامة الحلف الأطلسي. أوروبا اليوم أغنى من روسيا ولكن بقيت معتمدة عسكريا على الولايات المتحدة، وتستطيع بقليل من التنسيق التصدي منفردة لروسيا في حال تعرضها لعدوان.

يذهب الفرنسيون كما نعلم بعيدا في الميل نحو الاستقلال الأوروبي عن أمريكا بمسؤولية الأمن الأوروبي. مشكلة الفرنسيين متجذرة هي الأخرى في تراث الحرب والسلم في القارة العجوز. لا أحد، أو قليلون من المتمرسين في شؤون القارة، يثقون بالسياسة الفرنسية وأقل جدا هم الذين يؤمنون بإمكان الاطمئنان إلى شبكة أمن تعتمد على علاقات تقوم على الثقة المتبادلة بين ألمانيا وفرنسا. ثم أنه في باريس كما في عواصم أوروبية كثيرة يثار دائما السؤال عما إن كانت الولايات المتحدة سوف تبقى في الأجل المنظور دولة “أوروبية”، بينما المؤشرات كافة تشير إلى أنها تسرع الخطى نحو تركيبة سكانية مختلفة، والشواهد تؤكد أيضا أن تغيرات هامة وقعت بالفعل في الثقافة السياسية الأمريكية ولم تنتظر التغير الجوهري في ديموغرافية الأمة.

الألمان لا يريدون للحلف الأطلسي بديلا. هم سعداء بما حققه لهم. منحهم الأمن اللازم لبناء أكبر قاعدة صناعية في أوروبا بعد الحرب. أهم من هذا أن الحلف أمنهم من أنفسهم إذ بقيت نسبة عالية من الألمان غير واثقة من حسن تصرف الألمان في التعامل مع علاقات أوروبية وعسكرية معقدة تثير في المانيا من جديد روح التفوق او التطرف العنصري. هم الآن، وأقصد الطبقة السياسية والعسكرية، في حال “صبر استراتيجي” بالنسبة لمستقبل علاقاتهم بالحلف الأطلسي، بل ومستقبل الأمن الأوروبي عامة.

أما الطبقة السياسية البريطانية ففي رأيي الشخصي أنها وقد عانت الكثير من وراء هزات لم تعتادها ولم تكن يوما من محبذي دوافعها وأقصد الاستفتاءات كما في قصة البريكست وتداعياتها فإنها سوف تزداد تمسكا بحلف الأطلسي ولن ترضى بغيره. أصدق ما تردد من أنهم في بريطانيا يجزمون بأن الارتباك المحيط بالمواقف من الحلف ومستقبله مبعثه التصرفات الشخصية للرئيس ترامب وليس نتيجة توجهات جديدة في السياسة الأمريكية. بمعنى آخر يزول هذا الارتباك بفشل ترامب في انتخابات تجديد ولايته أو يزداد ويتفاقم بفوزه فيها.


أتصور أن تفوز، في الأجل القصير، القوى الأوروبية الحريصة على المحافظة على استمرار حلف الاطلسي في اداء بعض ادواره بعد تطويرها او تصحيحها. طبيعي أن تبقى روسيا والصين تعملان على إثارة الوقيعة بين صفوف دول الحلف وإضعاف النفوذ الأمريكي في القارة. طبيعي أيضا أن تنشأ تيارات داخل الحلف وفي كل من الصين وروسيا تدفع نحو إقامة جسور للتعاون مثل فكرة إنشاء مجلس صيني أوروبي وإنعاش المجلس الأوروبي الروسي، فالمشروعات الجديدة سواء المتعلق منها بعسكرة الفضاء أو الاستثمار في المناطق القطبية سوف تحتاج إلى تعاون وثيق في استخدامات التكنولوجيا الأعظم تطورا.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version