طلال سلمان

أمسية عائلية في ربيع 2030

نادرا ما نجتمع كعائلة. اجتمعنا ليلة أول أمس تلبية لطلب من ابني. أراد أن يقدم لنا صديقته الحميمة ولعلها في واقع الأمر الأكثر حميمية بين صديقات كثر. المفاجأة لنا لم تأت من دعوة صديقته فوجودها ووجود غيرها في بيتنا أمر مألوف، إنما أتت من طلب اجتماع لكامل أعضاء العائلة لتقديمها لنا من جديد. جلس كل منا في مقعده المفضل بعد أن تبادلنا كلمات تليق باجتماعنا الذي لا يتكرر إلا نادرا. كنا خمسة. رومانا زوجتي وابننا هاني وابنتنا ماريانا والمخلوقة اصطناعيا تسو الطرف الخامس في هذه العائلة. انشغل كل منا بما في يده باستثناء تسو التي راحت تنقل نظراتها من كل واحد في الغرفة إلى الآخر. تهتم بأحدنا لسبب لا نعرفه فتتغير قسمات وجهها أو تركز عليه الانتباه لثوان قبل أن تنقل اهتمامها لغيره. لاحظت عليها في تلك الليلة توترا غير معتاد. نهضت من مقعدها أكثر من مرة لتحرك قطعة من قطع الزينة الملقاة على موائد الغرفة إلى مكان آخر استحسنته أو لتحمل كوبا فرغ منه الشراب لتجدده أو تبعده. ولكنها على غير عادتها تحركت كثيرا بغير هدف.


دق جرس الباب. نهض معا الاثنان هاني وتسو ليفتحا الباب للضيفة. تعمدت تسو أن تسبق الابن العزيز إلى باب البيت. عاد ثلاثتهم. احتلت تسو مقعدها وأقبلت الضيفة، واسمها زهى، علينا تحيينا. لم تصافحنا طبعا فأبناء هذا الجيل لا يتصافحون ولا يصافحون كما كانت تفعل أجيال سابقة. انفتح النقاش. لم أعرف كيف ومتى بدأ ولكني أعرف أنه كان من نوع النقاش الذي يحمل في جذوره مظنة أن يتحول من بارد إلى ساخن في لمح البصر. تدخلت لإدارته وقد لاحظت أن تسو، الإنسانة الاصطناعية الناعمة جدا، تحاول فرض رأيها في قضية حساسة لا يتحدث فيها الناس الطبيعيون في حضور الغرباء. مرة أخرى تؤكد تسو أنها لم تعد غريبة عن عائلتنا وضيوف أفرادها.

بعد قليل تعمدت أن أجعلها، أي تسو، تدرك أننا لم نقم بواجب الضيافة للآنسة زهى، الصديقة الحميمة جدا لابننا. انتفضت تسو معتذرة ولكن رافضة عرض زهى وهاني أن يقوما وحدهما وبدون مساعدة من تسو بالتجول في المطبخ وخزائنه وثلاجته الكبرى والصغرى وكل الغرف والحصول على حاجتهما. لم تضعف أمام توسلاتهما ولم تتأثر بعلامات عبوس وغضب. أجبرتهما على التراجع نحو مقعديهما يجران أذيال الهزيمة. غابت تسو دقائق معدودة خارج الغرفة التي كانت تغلي بالتوتر. سمعت زهى تقول لهاني “تسو تغار عليك مني”. رد هاني “مستحيل يا زهى فهي تفتقر إلى المشاعر والعواطف كما نعرفها”. عادت زهى لتلقي ببعض غضبها على صديقها ولتقول له “أنا امرأة وأعرف كيف تغار امرأة من امرأة أخرى وهذه التي تعيش بينكم امرأة. صدقوني ففي بيتنا مخلوقة مثلها”.


طلبت من العائلة التصرف بحكمة عند عودة تسو إلى الغرفة ووعدت زهى بأنني سوف أعالج الأمر في الأيام التالية. دخلت تسو وهي تحمل صينية اصطفت عليها أكواب القهوة والشاي وصحون الحلوى وعلى وجهها ابتسامة رضا وصفاء. طلبت منها بعد أن انتهت من مهمة الضيافة أن تسمعنا مقطوعة أحبها لشوبيرت فاستجابت إلى طلبي ورغبتي أن تأتي الموسيقى من مكبر خافت. انسحبنا زوجتي وأنا بعد الموسيقى مرسلا في انسحابنا إشارة إلى تسو والابنة ماريانا لتنسحبا معنا. تلكأت ماريانا معاندة أخوها ثم انسحبت بعد أن تلقت رسالة هامسة منه حملت لها وعدا أو مكافأة.

مررت في طريقي إلى غرفتي على غرفة نوم زوجتي. استقبلتني بنظرة ماكرة وسألت عما أنوي عمله في شأن التغير في سلوك تسو. نعم ستحملني المسؤولية فأنا كنت من اختار مخلوقة اصطناعية على هذه الدرجة من الجمال. أنا احب الجمال، أحبه في كل موقع ومرحلة وإنسان. أنا من اخترت أيضا درجة متقدمة من الذكاء. أنا أكره الغباء وأعرف أنه مسؤول عن كوارث كثيرة. أردت حين اخترتها أن أحيط نفسي بكل الذكاء الممكن. اخترت آخر ما أنتجته معامل اليابان من بشر اصطناعي، كان حلمي أن أعيش المستقبل في بيتي، أعيشه بسلوكياته وأشخاصه إن أمكن فاخترتها لي ولأولادي بقسمات صينية. استطردت زوجتي قائلة “أرجوك اذهب بها غدا صباحا إلى المعالج الفني الذي يتولى صيانتها. اشرح له حالتها وحالتنا معها. قل له من فضلك نريد أن يعرف أننا لم نعد نستطيع العيش بدونها رغم كل تجاوزاتها. أنت يا زوجي، هل تستطيع العيش بدونها؟”.

أدرت وجهي وذهبت إلى غرفتي. رفعت سماعة الهاتف الداخلي وأمليت رسالة هذا نصها “عزيزتي تسو، أرجو أن تعدي لي مذكرة قانونية آخذها معي صباحا إلى المحكمة للاستعانة بها في دفاعي عن س. س المتهم بالإخلال بالأمن العام والتحدث علنا في أمور صدر حظر على الكلام فيها. “ردت تسو” عزيزي، لقد انتهيت للتو من إعداد مذكرة معلومات طلبتها ماريانا لبحث سوف تعرض فكرته وخلاصته في الجامعة غدا. المذكرة القانونية التي تطلبها أحتاج لمناقشة بعض محتوياتها معك قبل الانتهاء منها. أنا في انتظارك”.


غاب الفني المعالج في معمله مع تسو دقائق عاد بعدها فأغلق الباب ودعاني إلى مكان قصي في غرفته لنجلس ونتحدث. تكلم بصوت خافت. قال “سيدي لا علاج عندي لما تشكو منه. أنت لست الوحيد على كل حال. كلكم، أقصد الزبائن الذين تعاقدوا معنا على إنتاج وتوريد روبوتات بمواصفات معينة يعودون إلينا بملاحظات مشتركة بينهم. لاحظتم جميعكم أن الروبوتات التي تشارككم “العيش” طورت ذاتيا المواصفات التي خلقت عليها. أنت مثلا لاحظت أن تسو أضافت رونقا وذوقا مختلفا على ديكور منزلك، هي الآن تختار لزوجتك الألوان اللائقة والملابس المناسبة لكل رحلة عمل وواجب عائلي. وفي رأيك وآخرين أن تسو والروبوتات من أمثالها العاملة في بيوتكم ومكاتبكم هي الآن أشد ميلا إلى مفاهيم وممارسات العدالة الاجتماعية واحترام الحقوق والحريات. أنت نفسك ضربت لي أمثلة من المذكرة القانونية التي قضيتما الليل تتناقشان في بنودها، وأمثلة أخرى من مواقفها السياسية في جلسات الحوار التي تحضرها وأمسيات العائلات التي تشارك فيها. كلكم بدون استثناء تقريبا لاحظتم أن الروبوتات تطور لنفسها عواطف ومشاعر أؤكد لك أننا لم نغرسها عند الصنع. حكيت عن الغيرة التي كشفت عنها تسو عندما التقت بزهى ليلة الأمس. الغريب أن يحدث هذا التطور في وقت انحسرت فيه ملكات العواطف والمشاعر، وتحديدا القدرة على تبادل مشاعر الحب، بين البشر الطبيعيين. انحسرت لتظهر في سلوكيات الروبوتات”.


خرجت من معمل المعالج الفني وتسو معلقة بذراعي. بدت سعيدة بزيارتها للمعالج وبوجودها معي. نظرت إليها بطرف عيني وتساءلت، لمن المستقبل؟

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version