طلال سلمان

أمر اليوم

محطة مفصلية جديدة تأتي في سياق الخطوات المتعاقبة يومياً، وساعة تلو ساعة.

ثورة الشعب، وهي ثورة بالتأكيد، تعبر عن واقع حالنا وعن العجز المدوي للنظام السياسي الحاكم في لبنان منذ تاريخ يعود إلى ما قبل الاستقلال.

نقف اليوم في مطلع العام 2020 من القرن “الواحد والعشرين”، حيث نعيش حالة انفصام ما بين عصر المعلومات والتكنولوجيا والعولمة والاقتصاد العابر للحدود الجيوسياسية، وما بين تاريخ لم نفلح خلاله بأن نواكب هذا التقدم ومتطلباته.

لقد خرج نظامنا السياسي من نطاق الزمن المعاصر وبقي عالقاً في سبات طويل.

“الشعب يريد إسقاط النظام” هو شعار واع أطلقه المتظاهرون وهم يدركون هذه الحقيقة.

كذلك هو شعار “ثورة”، لأن العلاجات الموضعية القصيرة الأمد لن تكون مجدية في الخروج من المأزق الذي وصلنا إليه.

والشعور بالظلم هو الذي خلق لدى شعبنا هذا الإدراك. والظلم نابع أساساً من ممارسات الذين استغلوا هذا النظام وكرسوا تعقيداته “المتخلفة”، كالطائفيات واختلافاتها، ونظام الرعية والملة، لاستغلال الحق العام والملك العام.

يوجه الثائرون غضبهم تجاه هؤلاء وهم الذين استفادوا من الخلل القائم في النظام كأفراد ومجموعات دون سواهم، حتى بات لدى المشمولين بشعار “كلهم يعني كلهم” طائراتهم الخاصة وأموالهم الطائلة ومصالحهم المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، حيث بإمكانهم أن يديروا ظهورهم لنا ويغادروا إلى مكان آخر ينعمون فيه بما جنت أفعالهم من ثروات حرموا المجتمع منها ومن فرصة توظيفها في بناء مستقبل أبنائه.

حتى الإنجاز التاريخي لشعبنا ومقاومته الوطنية في تحرير لبنان من احتلال العدو الإسرائيلي، وهو إنجاز غير مسبوق في تاريخنا العربي، بات عرضة للاستغلال من قبل الطبقة الحاكمة الفاسدة نفسها. وكأنه لا يكفي إخفاق الحكام المتتالين إلى السلطة في حماية الشعب وأرضه، مما أجبر حركة المقاومة الشعبية على النمو للدفاع عن الناس، بل صارت هذه الطبقة تساوم المقاومة وتبتزها لتأمين “الغطاء” السياسي لها أو تحاربها. يحاسب الناس المقاومة في الشارع اليوم، المتمثلة بمجاهدي حزب الله، لأنها “تخاذلت” مع هذه الطبقة السياسية، ولو مضطرة، ولعبت لعبتها وهي الطبقة التي حرمت الناس من حقوقهم، وتحاسبها أيضاً لأنها لم تردع الفاسدين عن إلحاق الظلم بالناس وبمستقبل أبنائهم، كما ردعت من قبلهم العدو الإسرائيلي عن ذلك.

وما يزيد من غضب الناس اليوم، هو قيام هذه الطبقة الفاسدة باستغلال تحركهم في الشارع لتصفية حسابات في ما بين فرقائها المختلفين، بالسياسة كما يدعون، والتصرف كأنما المسألة مقتصرة على إقفال “بعض” الطرقات والاعتصام السلمي في الساحات. فبالنسبة إليهم لا يرتقي ما نشهده اليوم ويسجله تاريخنا إلى مرتبة تحقيق طموح الناس، لأنهم لا يرون فيه، حتى الساعة، ما يشكل تهديداً وجودياً لكيانهم وديمومتهم.

إن الطرح الذي يتناسب مع هذا القدر من الاعتراض والمعاناة لدى الناس، هو تأسيسي بالضرورة وينقض كل ما كان قائماً وثابتاً في بلدنا قبل أسبوع من اليوم.

لا تريد الناس فض “مشكل” وقع في شهر تشرين الأول من العام 2019، بل تطمح إلى وضع حجر الأساس لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان، ترسم فيها مستقبله ومستقبل أبنائه، وتطوي بها صفحة قاتمة من تاريخ وطنها.

الناس استدركت وتريد أن تحاسب من سرقها واستغل ما هو حق لها، تحت غطاء سياسي أحياناً أو طائفي ديني إجمالاً. والمحاسبة لا تقتصر فقط على السارقين، بل تطال كذلك المقصرين والمستهترين بالمال العام وهادري الوقت والفرص.

الناس تريد استرداد ما سلبته منها الطبقة السياسية التي نالت عن جدارة صفة “العصابات المنظمة”.

لا يتوقع الناس من القوى السياسية نفسها وهي التي صنعت الأزمة، أن تصحو وتنتبه وتقدم التنازلات و”التضحيات” المطلوبة لتساعد الثائرين عليها في كتابة صفحة جديدة من تاريخ لبنان.

ولا يتوقع الناس من هذه الطبقة أن تعترف بأخطائها وتتنازل لهم عما راكمته ووظفته عبر السنوات في نظام الحكم للبقاء في موقع السلطة.

ليت أن بعضهم ممن كفه نظيف أو لديه إمكانات مادية أو صفات رجال الدولة أو خبرة مهنية، وبقدرات تنظيمية ومؤسساتية، يساعد الناس على تجاوز صعوبات هذه المرحلة التاريخية وإرساء الخطوات التأسيسية لها.

وسيبرز أصحاب كفاءة وخبرة، ممن ساهموا في تطوير بلاد المعمورة في المغتربات المختلفة، أو ممن صمدوا في لبنان وأتقنوا مواجهة المصاعب وتحدي المستحيل، وسيساهم كل منهم بقدر في تأسيس المرحلة المقبلة التي تليق بطموح شعبهم.

لقد شهدنا على الثورة ذاتها كما انطلقت في تونس ومصر والبحرين وليبيا وسوريا واليمن والجزائر والسودان، وتعلمنا منها وباتت هذه التجربة القومية مختزنة في ذاكرتنا الجماعية.

الثورة تطور نفسها، وفي كل مرحلة يدرك الناس المخاطر التي عليهم أن يواجهوها. هم يمتلكون الوعي الكافي لتجاوز هذه المخاطر مهما كلفهم ذلك من تضحيات يزرعونها في وجدان الناس لترعاها الأجيال المقبلة وتراكمها في صناعة مستقبل بلد تحمّل أهله الكثير.

لقد حان الوقت لأن نصحح مسار حياتنا في وطننا وأن نرتاح من معاناتنا الطويلة.

Exit mobile version