تثبت الوقائع التي يعيشها العرب في مختلف أقطارهم انهم ينقسمون الآن إلى “مقيم” و”مهجر”، كما كانوا ينقسمون في ماضيهم إلى “قيسي” و “يمني”! إن الملايين من أبناء سوريا والعراق واليمن وليبيا قد خرجوا مجبرين من بلادهم حاملين معهم نساءهم وأطفالهم، إلى حيث يمكن أن يستمروا على قيد الحياة، تاركين خلفهم بلادهم تحترق في نيران الحروب التي تشارك فيها دول قريبة ودول بعيدة و”دولة” الخلافة الداعشية المزعومة فضلاً عن دويلات أنشأتها عصابات مسلحة حيث أخلت القوات الحكومية من جيش وقوى أمن مراكزها حتى لا تقع في أسر “الدواعش” وأشباههم.
بالمقابل فان ملايين أخرى، بينهم نخب من الخريجين والعمال المهرة والطلاب قد هجرت بلادها في مصر ولبنان وفلسطين وتونس والجزائر والسودان الخ.. إلى أي مهجر يقبلها في الغرب الأميركي والغرب الأوروبي سعياً وراء فرص العمل ومعها وعبرها اكمال الدراسة من أجل العمل مرجئة الحنين إلى الوطن إلى ما بعد الاستقرار وتأمين دخل كاف ربما ترسل جزءاً منه إلى الأهل في.. بلد المنشأ!
لقد بات العرب خير أمة أخرجت.. من بلادها!
وهكذا فان بلاد العرب تخسر نخبها، بل والملايين من أهلها، في حين تكسبهم “بلاد الفرنجة”، يداً عاملة رخيصة تقوم بما يأنف أن يقوم به أهل البلاد، أو طلاباً مميزين يتخرجون بتفوق فيستبقون تقديراً لكفاءتهم، وهكذا يستقرون حيث هم وقد يستدعون الأهل إلى “المستقبل الأفضل” ولو بلا هوية وطنية.
أن ديار العرب أرض حرب الآن، قد تتفجر بالظلم والقهر وسوء الإدارة، وقد تجد من يفجر فيها حروباً أهلية طمعاً بالسيطرة عليها وإسقاط “نظام القهر” فيها، بينما القهر وافد من خارجها..
وليست العلة في الأنظمة العربية وحدها، فغالباً ما تكون معارضاتها أسوأ منها منطلقاً وبرنامج حكم.. وأحياناً ما تكون هذه المعارضات مصنعة في الخارج ومدعومة منه لأغراض مفضوحة وأطماع وأحقاد تاريخية أو مستجدة… وأحياناً للثأر من ماضي الخروج على “السلطنة” كما في حالة تركيا..
فأما لبنان فحكايته مع الهجرة قديمة، تعود بداياتها إلى أواسط القرن التاسع عشر (1840 – 1860) نتيجة الفتن الطائفية التي غذاها الاحتلال العثماني وأطماع الغرب (فرنسا أساساً وبريطانيا وروسيا القيصرية في وراثته)..
لكنها كانت هجرة قريبة، والى مصر بشكل خاص، حيث أسهم “الشوام” في تأسيس الصحافة المصرية (المقتطف، الأهرام، دار الهلال الخ)… وكان المهاجرون بالآلاف..
في حين أن مهاجرين آخرين قد توغلوا في البحر حتى بلغوا بعض أوروبا ثم أكملوا الرحلة إلى الولايات المتحدة الأميركية، بصحبة آلاف من “الشوام” أيضاً ولكن السوريين هذه المرة.
لكن الهجرة الحالية (وهي قسرية) فتشمل عشرات الآلاف من لبنان، وسببها المباشر البحث عن فرصة عمل وفرصة علم، ولو في البعيد.
أما بالنسبة إلى سوريا فان بضعة ملايين من أهلها قد تركوها هرباً من نيران الحرب الأهلية/الدولية فيها… ويضم المهجرون الرجال والنساء والأطفال.
في البداية كانت الهجرة القسرية تحط في دول الجوار: لبنان، الأردن، تركيا… أي المناطق الأقرب إلى “الجبهات الملتهبة” في الشمال أو الجنوب أو الغرب السوري..
أما مع توالي سنوات القتل والتدمير والتهجير فقد خرج مئات الآلاف ثم الملايين، رجالاً ونساء وأطفالاً، هائمين على وجوههم، فركبوا البحر إلى بعض أقطار أوروبا على الشاطئ الغربي للبحر المتوسط..
ولقد مات الآلاف غرقاً، وانقذ الآلاف، فحبسوا في معسكرات مسورة بأمل إعادتهم إلى بلادهم، فلما تبين أن ذلك متعذر مع استمرار الحرب تدخلت الأمم المتحدة فأنشأت هيئات إغاثة، وأقامت بعض الدول مؤسسات لرعاية هؤلاء الذين حكمت عليهم أقدارهم بالفرار من بلادهم حيث كانوا يعيشون بكرامتهم، ولو فقراء، إلى حيث يقبلون بالاضطرار “لاجئين” يعيشون في مخيماتهم في قلب الوحل والثلج على الإعانات الدولية..وقد يحظى بعض أطفالهم بمقاعد دراسية (مدعومة !!) في بعض البلاد العربية، أما في الغرب فهم متروكون للمقادير..
بالمقابل كان قد سبق ملايين العراقيين إلى الهجرة في زمن حروب صدام حسين (7 سنوات ضد إيران، ثم حوالى السنة ضد الكويت) قبل أن يشن الأميركيون هجومهم المدمر الذي اغتال العراق قبل أن يلقى القبض على “الزعيم القائد” فيسلمه إلى بعض ضحاياه ليعدموه بطريقة بشعة تزيد نار الفتنة التهاباً… وما تزال نارها تحت الرماد، إلا اذا نجح تحرير العراق من داعش في إطفاء هذه النار المدمرة.
ولقد خرج من العراق إبان حكم صدام حسين وحروبه ثم حرب القضاء عليه الملايين من أبنائه، استقر معظمهم في سوريا والأردن ولبنان وبعض الخليج وقصد الأغنياء بعض أوروبا (بريطانيا خاصة) والولايات المتحدة..
ثم جاء اجتياح “داعش”، وكانت سوريا تحترق في الحرب فيها وعليها، فهربت أعداد من العراقيين إلى الأردن وبعض الخليج ولبنان، وكذلك إلى بعض أوروبا.
فأما اليمن فان المملكة العربية السعودية قررت، ذات ليل، أن السلطة في صنعاء “غير ديمقراطية” فأنشأت حلفاً مع بعض إمارات الخليج وشنت على “اليمن السعيد” حرباً شعواء ما تزال مستمرة حتى الآن، تستهدف العمران في المدن والقرى والدساكر، فتقتل الرجال والنساء والأطفال والمدارس وحتى المستشفيات والمستوصفات القليلة. وطبيعي أن يترك اليمن كل من استطاع إلى ذلك سبيلاً، هرباً من “القتل الأخوي” بالطائرات الحربية التي لم يعرف العرب بوجودها في السعودية (ومعها الإمارات وقطر) إلا خلال حرب الإبادة التي تشن منذ عام ونصف على هذه البلاد التي يعيش أهلها بالحد الأدنى من أسباب العيش.
هكذا هي حال العرب: انقسموا الآن إلى مقيم ومهجر ومغترب، أو إلى قتيل بلا مدفن وجريح بلا مستشفى أو دواء.
عدد المهجرين بالملايين (من سوريا وحدها حوالى سبعة ملايين).. وكذلك من العراق واليمن وليبيا التي اسقطت دولة القذافي فيها بالقوة، وتعذر حتى اليوم إقامة دولة أخرى فيها، وان كانت قد قامت “دول” عدة شرقاً وغرباً وبين بين فضلاً عن الجنوب التائه بين دول الشمال والشرق.
ولا إحصاء دقيقاً لعدد القتلى في ليبيا..
أما العراق فالإحصاء معلق في انتظار تحريره من “داعش” وقوات الحلفاء وقوات الأصدقاء والميليشيات الطائفية..
وعلى هذا فمن يتذكر ما يجري في فلسطين وللفلسطينيين فيها الذين يعمل العدو الإسرائيلي فيهم تقتيلاً وتهجيراً ونسفاً لبيوتهم وصولاً إلى التهديد بقوانين تمنع رفع الآذان، لأنه “يزعج” المستوطنين المستقدمين من أنحاء الأرض، فيهم يهود وفيهم مرتزقة ومنهم “لاجئون” استقدموا من روسيا وبعض أقطار افريقيا، كيد عاملة..
أن العرب مهددون بالتحول إلى امة من المهجرين..
أن اوطانهم تضيق بهم، أما نتيجة قهر أنظمتهم، وأما نتيجة الفقر وانعدام فرص العمل، وأما بسبب اليأس من الغد.
أن خير امة أخرجت للناس.. تخرج الآن من بلادها.