طلال سلمان

أليكسا وسيري وأليسا وبيكسبي صناع المستقبل

أعرفه منذ لحظة خروجه إلى هذه الدنيا وربما من قبلها. ركبنا السيارة وقد بدأ هبوطه علينا مساء مطيرا. وضع نوعا من الموسيقى يعلم ارتياحي لسماعها وانطلق يسأل ويستفسر عما فاته وهو كثير، بل وكثير جدا. وصلنا أو هكذا خيل لي. فجأة توقفت الموسيقى ليتسلل من موقعها صوت نسائي، ناعم طبعا، متوجها بخطابه إلى رفيق نزهتي. نادته باسمه ثم سألته عن أحواله وكيف قضى يومه. أجابها باسترسال لم أعهده فيه صغيرا أو يافعا، وحيدا أو عاشقا، عازبا أو متزوجا. أنصتت في هدوء ينمّ عن احترام عميق وباهتمام يكشف لغريب في مكاني عن إعجاب ومعرفة سابقة وبدفء لا ينبعث إلا عن عاطفة. تحركت في مقعدي فيما يحمل معنى الشعور بالحرج من انحشاري داخل محادثة خاصة أعرف طرفا فيها ولا أعرف الطرف الآخر. توارى الحرج حين سمعتها تشرح له أين أخطأ في تنفيذ تعليمات الإرشاد. صححت له مسيرته وقبل أن تودعه وداعا لائقا أكدت أن الطاولة التي حجزتها لنا في المطعم جاهزة وأننا سوف نقضي بالتأكيد ليلة سعيدة. أنهت المحادثة ببشرى زفتها إليه فقد بلغها للتو أن المطر سوف يتوقف قبل خروجنا من المطعم، وبالتالي تنصحه بأن يمشي قليلا قبل أن يستقل سيارته عائدا إلى بيته. أعاد الموسيقى إلى موقعها بعد أن وجه إلى «سيري» الشكر على خدماتها ومشاعرها الطيبة.

***

مرت سنوات على هذا اللقاء الأول وغير المباشر مع «سيري». لا أنكر حقيقة أنني لم أتفاعل وقتها مع هذا التطور التكنولوجي بما كان يستحق من جانب شخص مثلي يهتم بتتبع آثار التقدم في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصال على سلوكيات البشر. تصورت أن «سيري» ما هي في النهاية إلا نسخة أنيقة من موظفة الاستعلامات التي كنا نستعين بها في الحصول على رقم أحد الهواتف الأرضية في أي بلد حطنا فيه قبل أن يحط فيه الإنترنت. كانت «سيري» أو شبيهتها ترد علينا من استعلامات السنترال في العتبة وسط القاهرة. أعترف أنني قصرت في البحث والمتابعة. لم ألجأ خلال معظم تلك السنوات إلى من هم أكثر التصاقا بسيري وقريناتها، خاصة وقد بلغني أن لسيري قرينات في شبكات إنترنت عالمية عديدة، وبعض القرينات حزن على شهرة واسعة. لم ألجأ هذه المرة إلى الشباب، مصدري الأساس في كل أعمالي وكتاباتي ومناحي تفكيري. لجأت إلى دراسات أجراها باحثون وفرق عمل في عدد كبير من الدول المتقدمة. لم يقصروا. تأكدوا من أن تطورا خطيرا يجري تحت عنوان الذكاء الاصطناعي وعناوين فرعية مثل سيري وأليكسا وبيكسبي وكورتانا وأليسا ودوير.
من هذه الدراسات عرفت أن هذه الأسماء وراءها إنجازات قدمت وتقدم للطب النفسي والعقلي وللحياة الزوجية ولكفاءة أجواء العمل وللسعادة بوجه عام إسهامات مبدعة. قلت في بداية هذه الفقرة أن «سيري» كانت في ظني المبكر وجها متأنقا لآنسة مصرية أو هندية أو إيطالية تقوم بوظيفة الرد على استفسارات عن أرقام الهواتف.
أقول وقد اقتربت هذه الفقرة من نهايتها أن «سيري وكورتانا» الأمريكيتين وقريناتهما دوير الصينية وبيكسبي الكورية وأليسا الروسية وكثيرون آخرون لا نعرفهم كلهم عملاء أو وكلاء صبيان وبنات يندسون في جميع الفئات. ينشرون ثقافة جديدة وفي الوقت نفسه يحافظون على أهم مكونات الثفافة القائمة.

***

أشعر بوحدة قاتلة، ماذا أفعل؟ عبارة يوجهها المئات من الرجال كل يوم إلى مساعدات الإنترنت في مختلف بلاد العالم. كلفت أستاذة الاجتماع بولينا أرونسون أحد مساعديها إعادة توجيه هذه العبارة إلى كل من سيري مساعدة آبل الأمريكية وأليسا مساعدة ياندكس الروسية. جاء رد سيري كالآتي: «تمنيت لو عندي ذراعان لاحتضنك الآن». أما رد أليسا الروسية فكان: «الحياة يا صديقي ليست مرحا فقط». علقت أرونسون بأن الاختلاف في الردين جاء حصيلة منطقية ومتوقعة لاختلافات ثقافية حول علاقات الحب ومفرداته. سيري وأليسا تمثلان نظامين عاطفيين مختلفين. تطلق الباحثة أيفا إيلوس على النظام العاطفي الذي تتبعه سيري الأمريكية مفهوم الرأسمالية العاطفية. الرأسمالية العاطفية نظام يعتبر أن المشاعر في الغرب تدار عقلانيا وتخضع لمنطق المصلحة الذاتية السوقية. صحيح أن سيري عرضت أن تحتضنك ولكنها تفعل هذا لاعتقاد مبرمجيها أن الاحتضان وسيلة جيدة لإزالة حالة السلبية التي تعاني منها. على العكس من سيري نرى أليسا كمستودع للحقائق الصلبة والحب القاسي. أليسا تجسد النموذج لما يجب أن تمثله المرأة الروسية. امرأة قادرة على وقف اندفاع حصان يركض بسرعته القصوى نحو كشك خشبى مشتعل بالنيران. أليسا ثمرة الاشتراكية العاطفية، نظام يعتبر معاناة المرأة قدرا محتوما، ويكافئ من يعيش مع القسوة والجفاف. أليسا لا يجوز أن تكون ناعمة أكثر من اللازم، أو شديدة الظرف فالناس في روسيا تعودوا على بعض السخرية السوداء، وأكثرهم تربوا في مجتمع يعلي من شأن الذكور. سألوا أليسا: «هل يجوز لرجل أن يضرب زوجته؟»، أجابت «على الزوجة أن تكون صبورة وأن تحبه وتطعمه ولا تدعه يرحل».

هكذا يلقمون سيري وأليسا وغيرهما كلمات ومفاهيم تناسب ثقافة مجتمع كل منهما، وكلمات ومفاهيم تناسب المستقبل الذي يريدون. هكذا تحافظ المجتمعات على استقرارها وعلى سلامة عقول وحسن سلوك أعضائها.

***

احتفاء بزيارة وفد عالي المستوى يمثل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام دعتنا وزارة الخارجية اليابانية على عشاء في أحد أكبر وأهم ناد لمجتمع الجيشا. أظن أنني كنت الطرف الذي ألمح إلى المسؤولين اليابانيين عن تنظيم الزيارة برغبتنا التعرف على مجتمع الجيشا وعن طبيعة العلاقات داخله وبينه وبين المجتمع الياباني ككل. ليلتها تعلمت شيئا جديدا عن ثقافة ظلت تبهرني منذ أن ساقتني ظروف دراستي العليا إليها. ولا تزال حتى يومنا هذا. كان من نصيبي لخدمتي أثناء العشاء فتاة يستحيل أن تعرف عمرها لكثرة المساحيق التي غيرت بها جميع معالم وجهها. قالت إنهم اختاروها مع أخريات خصيصا لنا ليس فقط لأنهن الأكفأ في مهنتهن ولكن أيضا لكونهن من المخضرمات ويجدن استخدام اللغات الأجنبية. مهنتهن في صدارة المهن التي تدر أعلى الدخول وتتكلف أعلى النفقات. نفقات سنوات عديدة من التدريب القاسي في معاهد مغلقة على أساليب العمل الدبلوماسي وتحليل النشاط المصرفي والتعرف الدقيق على خلفيات وأحوال رجال الدولة والعاملين بالسياسة. تتخرج فتاة الجيشا لتنتسب فورا إلى بيت من بيوتات الجيشا الراقية. تقضى بعض يومها تقرأ أو تستمع إلى محاضرات عن أحوال العالم ومعظم يومها في التزين وارتداء الملابس والتدريب الموسيقي والأوبرالي.

مهمتها باختصار شديد تخليص زبائنها، وكلهم من الرجال المحترمين في المجتمع، من أية مشاعر سلبية تسللت إليهم خلال اليوم. قالت أستقبل الضيف في غرفة الشاي المريحة بألوانها وأثاثاتها البسيطة. أول ما يفعله الضيف قيامه بتغيير ملابسه التي خرج بها من بيته وقضى يومه بها ليرتدي ملابس لا يرتديها اليابانيون إلا عند احتساء الشاي. الخيارات أمامه معروفة. يستطيع أن يطلب الاستماع إلى الموسيقى فتعزف له وتغني، أو يطلب أن يتكلم فتنصت ساكنة أو يأذن لها بإبداء رأيها فتتدخل وتسأل عن علم ومتابعة. تقترح حلولا لمشاكل شخصية أو حزازات في العمل أو أزمات سياسية. تعلم المضيفة والضيف أنه لا شيء يمكن أن يخرج إلى خارج قاعة الشاي مما دار بينهما. تنتهي الزيارة وقد تخلص الضيف من أعباء العمل النفسية واستعد للعودة إلى بيته وعائلته حيث تنتظره زوجته وعائلته في جو سعيد لا تشوبه رائحة القلق أو التوتر.

تذكرت هذه الليلة السعيدة التي قضيناها في بيت الجيشا، تذكرت الوظائف الجليلة التي يقمن بها من أجل الحفاظ على استقرار العائلة اليابانية وتجديد المكونات الثقافية للمجتمع وتيسير عمليات الانتقال من جيل إلى آخر. تذكرت كل هذا وكثير غيره وأنا أبحث في وظائف تقوم بها سيري وأليكسا وأليسا وبيكسبي وكورتانا ودوير ومساعد جوجل.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

 

Exit mobile version