طلال سلمان

أحيانا يكون الصمت صاخبا

هو يتحدث إلى نفسه في صمت: أحسنت صنعا عندما اخترت كعادتك المقعد على الممر. أنت هنا تحوز على حيز أوسع لتتحرك فيه إحدى ساقيك على الأقل بحرية. من هذا المقعد أنت، كعادتك، تهيمن على الحركة داخل الطائرة. لن يفوتك الكثير. تعلمت بالتجربة أن أكثر الركاب يتمنون أن تتاح لهم الفرصة ليتجولوا في الطائرة. البعض يفضل قضاء بعض وقت الرحلة يمارس الدردشة مع المضيفين والمضيفات ومع الطيار أو مساعده، أيهما يخرج من سجنه في كابينة القيادة ليحارب الملل، عدو كل طيار.

هو: أحسنت صنعا عندما كلفت شركة متخصصة في استقبال الركاب الراغبين في تفادي الاحتكاك بصعوبات أمنية وبيروقراطية. استقبلني مندوب واصطحبني من خارج المطار لأمر مع بطاقة سفري ووثائقي الرسمية وحقائبي عبر عديد الإجراءات حتى أصل أنا وحقيبة يدي إلى باب الطائرة. هناك عند الباب أستلم من مندوب الشركة أوراقي وأشكره على الخدمة الممتازة وأدلف إلى الطائرة لأجد في استقبالي مضيفة مبتسمة تدعوني مرحبة لمرافقتها حتى أصل معها إلى مقعدي. أخلع لها جاكتتي بطلب منها  فتحملها بحنان واحترام، وقبل أن تغادر تستفسر مني عن حاجتي إلى مشروب معين يعينني على مواجهة لحظة الانطلاق في رحلتنا الطويلة  وعن الجرائد والمجلات التي أفضلها، وفي صمت تشير بدلال إلى مكان  فوق صدرها. هناك حيث أشارت رأيت اسما محفورا أو مطبوعا بخط واضح. صرت أعرف من التجارب السابقة أن المضيفة المتميزة تفضل أن أناديها عند الحاجة باسمها وأنني يجب أن أشعر خلال الرحلة أنني ضيف غير عادي.

استمر توافد الركاب. أحب أن أكون في انتظارهم عن أن أكون بينهم. أحب رؤيتهم يمرون متريثين أمامي في ممر الطائرة. أعاينهم راكبا راكبا وراكبة راكبة. أتسلى بما أفعل وفي أحيان كنت أمتحن فراستي في الناس. أخمن ما يمتهنون أو يحترفون وأقرر بيني وبين نفسي إلى أي حالة اجتماعية ينتسبون. وفي نهاية الرحلة أوظف المضيفين والمضيفات للتحقق من حسن تخميناتي وقراراتي. قطع حبل انتظاري اقتراب سيدة في طابور الركاب السالكين الممر من حيث جلست. عيناها من دون بقية المارين مسلطتان ناحيتي. ملأ النظرة فضول ورغبات وأمنيات واحتمالات. عرفت من النظرة أن صاحبتها إما أنها تعرفني أو تعرف عني أو أنها صاحبة المقعد الخالي المجاور للشباك. هذه القادمة في اتجاهي قد تكون جارتي لساعات عديدة. الانطباع الأول من على البعد لا يشي بالكثير. ليس صحيحا ما كان يقوله لي معلم اللغة الفرنسية خلال سنين مراهقتي وهو الذي حمل على عاتقه مهمة إنضاجي في مجالات أخرى غير مجال تعلم الفرنسية. كان يقول “كل النساء سواء من على البعد وفي العتمة”.  لم تنقض سنوات قليلة إلا وقد تأكدت من زيف قوله وضيق أفقه وعمق تعصبه. أفقت من انشغالي بانطباعي الأول عنها وقد صارت المضيفة فوقي ترجو مني السماح للراكبة  بالمرور نحو مقعدها إلى جانب مقعدي. نهضت بدون تثاقل لأفسح لها مساحة أرحب. تركت مقعدي وخرجت إلى الممر لتدخل هي إلى مقعدها. وما هي إلا دقائق إلا وكنا في الجو.

•••

هي تتحدث إلى نفسها في صمت: أخيرا انتهت المجاملات الرسمية وعدت حرة ولو لساعات الطيران. أريد الآن مشروبا كالذي في يد جاري. المضيفة نبيهة قرأت ما يدور في ذهني وها هي قادمة نحونا. جاري مهذب كما خمنت وأنا أمشي في الممر نحو مقعدي. رجال كثيرون لا يتركون مقاعدهم لتمر جارة لهم. يكتفون عن عمد أو عن  نقص في التربية الأخلاقية بتوسيع المسافة بين ركبتيهما فتتسع قليلا وليس كثيرا مساحة تسمح بمرور الجارة. خمنت أيضا أنه يكتب ففي يده كما من حوله علي مقعده بل وعلى مقعدي صحف ومجلات أجنبية سارع عند وصولي برفعها ووضعها في الجيب الخلفي للمقعد الذي يجلس وراءه. يهمني جدا معرفة انتماءاته ومختلف هوياته وموقعه الحقيقي من النساء وموقفه من قضاياهن، قضايا المرهفات منهن والفقيرات أيضا. لن أبادر على كل حال.  سيفعل ذلك بالتأكيد. المهم، والمثير بالنسبة لي، أن أرى ابتكارا في اختياره أسلوب وتوقيت المبادرة بالتحدث معي. سئمت التكرار. أريد تجديدا حتى في هذه المسألة.

•••

هو يتحدث إلى نفسه في صمت:  طبعا هي الآن تحسب حساب الرد على مبادرتي بالتحدث إليها. مثل كل النساء هي تتنظر مني أن أبادر. أعرف أنها سوف تبادر. أما كيف عرفت  فأمره بسيط للغاية. هذه امرأة واثقة من نفسها إلى أبعد الحدود. رأيتها تمشي في الممر متوجهة نحوي، أقصد نحو مقعدها، مشية الواثقة من نفسها. واثقة من أناقتها، محتشمة في ملابس معبرة بقوة عن أنوثتها، بوجه وجسم يحيران الغريب الساعي وراء حقيقة عمرها. من منا لم يحاول أن يحظى بشرف الفوز في استدلال عمر امرأة. إنه بلا شك شرف مستحق. نظرتها لي وهي تقترب مني لتنفذ إلى مقعدها حملت رسالة لعلها الأسرع في كل ما وصلني من رسائل أنثوية. رسالة صامتة تعلن قبول صاحبتها التحدي. من منا سوف يثبت أنه الأقوى صمودا أمام مختلف الإغراءات التي يثمرها هذا النوع من الرحلات الطويلة. أعرف جيدا نوع  وحجم الخسارة التي يمكن أن تنتج عن خطأ واحد يقع فيه أي منا في تصرف غير موفق أيا كانت النية وراءه. الدقة والحرص والذكاء وسرعة البديهة وهدوء الأعصاب والصبر كلها وغيرها شروط يجب توفرها إن شئنا كلانا قضاء رحلة ممتعة في الطائرة  نعيش نذكرها. من ناحيتي سوف أبذل أقصى الجهد لتحييد عواطفي وقد أفلح. نعم، من ناحيتي سوف أعمل ما في إمكاني لأجعلها رحلة ممتعة أعيش لأحكيها.

•••

هي تتحدث إليه بالهمس وهما ينزلان من الطائرة: أما وقد صرنا على وشك أن يستقل كل منا سيارة الليموزين المصطفة في انتظارنا تحت سلم الطائرة والتي سوف تأخذنا إلى الفندق حيث يعقد المؤتمر، دعنا نتعهد بأن نجعل إقامتنا هنا ممتعة كرحلتنا.

Exit mobile version