طلال سلمان

أحلى أيام العمر

كنا في أواسط العمر وفي رحلة عمل وإلى جانبي جلس زميل عرف عنه عشقه للكلام. توقعت ساعات تمر سريعا وإن على حساب اهتمامات أخرى كنت أحلم بالانفراد بها. تحدثنا، والأصح تحدث زميلي كثيرا وعلقت قليلا. تحدث في كل شيء تقريبا. الجانب الذي أذكره جيدا هو حديثه عن العمر. راح ينتقد ما يفعله الزمن بنا. سألني، وكأنني أملك الإجابة، لماذا لم يتركنا الزمن نواصل مرحلة الشباب لتمتد بنا إلى نهاية العمر. وفي نهاية هذه الفقرة من حديثه أعلن أنه لا يريد أن يعيش بعد الخامسة والسبعين. “بعدها تنتظرنا أسوأ أيام العمر”. لم أعلق لحظتها لأنني لم أملك جوابا ولكني وقد عشت وامتلكت جوابا أعلق الآن وليته يسمعني من حيث يكون “إنها أحلى الأيام، أحلى أيام العمر”.


ألاحظ منذ مدة أمورا مدهشة. أسمع كلمات ولحن النشيد الوطني الأقدم فأجدني أنشده لا تفوتني كلمة ولا أنشز في نغمة. كثيرا ما سئلت عنه واعتذرت فلا الكلمات كنت أذكرها ولا اللحن. هل أقول أنه، وأقصد النشيد، هف كثيرا في الأيام الأخيرة ومعه كل ما كان يحيط به وبالمناسبات الرسمية من مظاهر التبجيل والاحترام والولاء. الصور تتزاحم في مخيلتي واضحة وضوح صور الانستجرام وروعة ألوانها. رأيت تشكيلات تلاميذ المدارس بنينا وبنات مرتدين ومرتديات الزي الرياضي الأبيض وقد امتلأت بنا ساحة المدرسة الخديوية قبل أن تنقلنا الحافلات إلى ميدان عابدين. المنظر بهيج، والفرحة تغطي على خوفنا من أن نعود إلى الحافلة فلا نجد بلاطينا والأغطية الصوفية التي زودتنا بها أمهاتنا مع توصيات بألا نخلعها إلا عند الضرورة، أي عند النزول إلى ساحة القصر. كن مشفقات، ولكن متفاخرات، فأطفالهن الذين حظوا بشرف المشاركة في احتفالات عيد ميلاد جلالة الملك يغادرون منازلهم في السادسة صباحا في برد فبراير اللعين. أذكر تماما تلك الهبة العاطفية والصارخة لحظة أن أطل علينا جلالته من شرفة عابدين ومن حوله الملكة فريدة والحاشية. أذكر الأناشيد التي أنشدناها والألعاب التي أديناها وعلب الحلوى التي وزعت علينا لنعود بها إلى أهالينا، أذكرها كما لو وقعت بالأمس وليس في سنوات ما قبل منتصف الأربعينيات.


أتساءل أحيانا إن كانت مرت علينا، أنا وأمثالي من كبار السن، أيام أحلى من أيام نعيشها الآن نستعيد خلالها تفاصيل أيام غابت قبل نصف قرن بل وفي حالتي ثلاثة أرباع القرن. الغريب والمدهش أن التفاصيل السعيدة والمبهجة فقط هي التي يعاد عرضها. لا سيرة لحزن أو ضيق أو أزمة، كل السير للأفراح والأعياد والمناسبات والرحلات والإنجازات. لا أذكر تفاصيل علاقتي بمعلم في المدرسة الابتدائية أساء معاملتي، ولا بد حدث، ولكني أذكر رائحة العطر الذي كانت تستعمله أبلة عائشة التي أعدتني لدخول المدرسة وأذكر أناقة وبخاصة لمعان أحذية وتمشيطة شعر الأستاذ كمال الشناوي معلم الرسم الذي فشل في أن يصنع مني رساما وممثلا. أتصور أن مجرد الاستمتاع باستعادة هذه الصور ورائحة العطور ودفء الأحضان يجعل لاعتقادي أن الإنسان في مثل عمري إنما يعيش أحلى أيام عمره معنى، وأن زميلي الذي تمنى ألا يعيش إلى ما بعد الخامسة والسبعين كان مخطئا ولعله بالفعل رحل وقد فاتته أحلى الأيام.


حضرت عرسا قبل أسبوع. غمرني شعور جميل. شعور من يعرف أنه كبير إحدى العائلتين. قضيت وقتا سعيدا أحظى باهتمام عظيم من الكل وبخاصة من الجارسونات وهم الأقدر بين كل البشر على قياس مكانة الشخص وأهميته. في هذا العرس كما في مناسبة ثانية وثالثة رأيت الصورة تتكرر. مجموعة من الشباب دائمي الحركة لا يجلسون على مقاعد ولا يأكلون، يرقصون على كل لحن ولا يتعبون. بنات وأبناء جيل يعيشون كل دقيقة من الحاضر وقلوبهم وعقولهم معلقة بالمستقبل. يتوسلون المستقبل وفي يقينهم أن فيه حريتهم وسعادتهم وبطولات غزواتهم. متمردون على الحاضر فالحاضر مفروض عليهم بأعرافه وقوانينه وغروره وهو على كل حال لهم مع غيرهم، أما المستقبل فلهم وحدهم.

وفي اللوحة أشخاص عديدون من فئة أواسط العمر متوزعون بالعدل على كافة الموائد، هؤلاء في الغالب نادرا ما يرقصون وكثيرا ما يتهامسون وفي مواعيد الأكل يأكلون. على وجوههم مسحة تعب دائم وعلامات سعادة مكبوتة أو قلق حائر. البعض منهم يتساءل إن كان سيكون لهم دور في الأيام القادمة، وإذا عثروا على الدور هل سيجدون الصحة والإرادة. أدوا واجبهم والدليل هذه الفرحة على وجوه بناتهم وهن يتمايلن على نغم غريب وهذه القطرات من عرق بلل جباه أبنائهم وهم يتقافزون مختالين أمام البنات.

هنا وهناك في القاعة تناثر المتقدمون جدا في العمر. هم القلة، ولكنهم القلة السعيدة حقا بوجودها. لا مشكلات من الماضي تزعجهم، ولا تحديات من الحاضر تقلقهم، ولا المستقبل شاغلهم.


أرى ملامح رجل حكيم في وجه كل مسن أقابله. أبالغ طبعا ولكن ليس كثيرا. راقبتهم طويلا هؤلاء المسنين وقرأت كثيرا عنهم. لفتت نظري واسترعت اهتمامي سلوكيات معينة يكاد يجتمع على ممارستها معظم كبار السن. أعجبتني أكثر من أي شيء آخر هذه القدرة على الجمع بين مجموعتين متناقضتين من الخصائص: الدفء والتعاطف والحنان واللهفة على الاحتضان من ناحية والبرود والابتعاد واللامبالاة والإهمال من ناحية أخرى. يمارسونها في سلاسة ونعومة. يحتضنك طويل العمر ولكن ليس طويلا ولا منتظم التكرار. يستمع إلى ما تقول ويشجعك على المزيد، وكما شجعك فسوف يهرب دون أن تدري أو تغضب. في هذا العمر يتقن المسن تفاصيل خريطة احتماله، ثق أنه لن يضغط على نفسه ليستمع لما تقول ولو للحظة أخرى فوق قوة احتماله.

مصالحه محدودة جدا أليس كذلك. لا طموح لديه ولا طمع. كلاهما من ضرورات المستقبل، وهو إنسان استغنى عن المستقبل. مستقبله هو حاضره يمتد يوما بعد يوم. إنسان لا يحمل الهموم التي يحملها المراهقين من أبناء وبنات، هموم دراساتهم ووظائفهم وزواجهم. وهو أو وهي، إنسان تجاوز المرحلة الأصعب في حياة البشر، مرحلة أواسط العمر. فات أوان حسابات الفشل والنجاح وتعويض ما فات وتضخيم الموجودات والانتقام من الأعداء والحاجة المتقطعة إلى تجديد الحياة مع رفاق جدد أصغر عمرا أو أحدث عقلا أو بطبع مختلف، رفاق للبقية الباقية من أواسط العمر. المتقدم في العمر إنسان يعرف كيف يتجنب المشكلات فهو الأدرى بإمكاناته وقدراته. لن يقبل تحديات شاقة أو دافعة للقلق أو حتى طاردة للنوم.

من فضلك لا تسئ فهمه أو فهمها. فوراء هذا الصمت والابتعاد عاطفة مركزة. بعض من وصفوا الحكمة قالوا، الحكمة هي أن تعرف كيف تتغاضى عن الأمور البسيطة، لا تتوقف أمام توافه الأمور، لا تنهك قدراتك الذهنية في حل مشكلات معقدة، لا تحملها فوق ما تحتمل تماما كما تفعل حين ترفض تحميل جسدك فوق ما يحتمل. الحكمة هي القدرة على التوصل إلى النقطة التي تتوازن عندها الأدوار المختلفة التي يتعين علينا ممارستها في حياتنا. هو وهي، كل على حدة، يعرف طرقا للسعادة. أن يفعل ما يحلو له أن يفعل غير مكترث بآراء من حوله هو طريق للسعادة. يعيش حلما تحقق، أن يعيش ليوم يتمكن فيه من أن لا ينفذ لأحد أمرا. أخيرا أدرك بنفسه، أو بنفسها، أن من اعتمد في حياته على شكله سبيلا للصعود، فسوف يقضي مرحلة تقاعده في ألم ما لم يسرع ليجد طريقا مختلفا إلى السعادة ويصرف النظر عن الصعود ومشتقاته. الشكل غير مفيد في هذه المرحلة من العمر، أهم منه القدرة على توليد أجواء الحب وطرد أجواء القلق.

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version