لن يستسلم ”أبو عمر” حتى لو بقي في الميدان وحده،
لقد وعى الدنيا مناضلاً حزبياً، خطيباً وشاعراً للثورة يغنيها ويهزج لها ويقوم حادياً للمؤمنين بها، يعبئهم ويشد من أزرهم ويؤكد لهم أنهم يستطيعون تغيير العالم لو أنهم أرادوا.
ومن موقع شاعر الثورة وحادي الثوار، انتقل صابر فلحوط إلى مواقع التوجيه السياسي، في الدولة التي افترض أنها أخيراً قد باتت ”دولة الثورة”، وفي الصحافة التي افترض أنها ستكون منبرها ولسانها والمعبّر عن نهجها في التغيير الجذري الشامل.
لكن صابر فلحوط الذي لم يخلق ليكون موظفاً، سرعان ما وجد نفسه مضطراً لأن يراعي مقتضيات الدولة: إنها الآن دولة الحزب، وعلى الثوار أن يرتاحوا وأن يتعلموا كيف ينتقلون إلى الموقع الآخر. لم يعودوا معارضين، ولم يعودوا دعاة تغيير، بل هم حراس للإنجاز، وعلى الشعر أن ”يتقاعد”، أو أن يتراجع إلى الخلف، أو أن يظل حبيس الصدر ينتظر فرصة للتفجر بما لا يؤذي النهج الرسمي.
في كتابه الجديد ”العروبة في خطر” لا يفعل صابر فلحوط غير محاولة إقناع نفسه، بداية، ثم الآخرين، بأن السياسة ليست بالضرورة نقيض الشعر، لكنه حيثما تيسر له المجال يأخذك على جنب ليهمس في أذنك: الحل بالسيف، لكن العجز عن استخدامه يلجئني الى مثل هذا الكلام المتهالك، فلا تصدقني ناثراً والحقني إلى شعري لتسمع مني حقيقتي!
ولقد عاش صابر فلحوط عمره ممزقاً بين الفارس الشاعر وبين الكاتب المطالب بالدفاع عن سياسة ليس فيها شيء من الشعر،
وهكذا فقد تعرض صابر فلحوط لظلمين: الشاعر فيه أنقص فرصة ”السياسي”، أما ”السياسي” فلم يعوّض الشاعر ولم يضف إليه.
وبرغم حنكته وقدرته على السباحة طويلاً تحت الماء، فإن صابر فلحوط كان في لحظات معينة لا يستطيع ضبط الشاعر فيه ويعجز عن منع تفجراته بالصدق الموجع وبالتوصيف الجارح لواقع سلطة الثورة البعيد عن مثالها.
إن موقفه محدد وثابت، مهما دارى وسايس وحاول التمويه:
“ ما دخل اليهود من حدودنا
وإنما تسربوا كالنمل من عيوننا”..
فما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، و”مرحبا مفاوضات”:
“ ألا إن حقاً لم تؤيده قوة
فذلك في شرع السياسة باطل،
“ فلم تنبسط كفاك للحق طالباً
إذا لم تفجر من يديك القنابل”
وعند ”أبي عمر” لا انفصام ولا انفصال بين الموقف الطبقي والموقف القومي:
“ الكادحون ألست تعلم مَن هم
وجراحهم في مقلتي تدمدم؟
“ هم في الحقول وفي الخيام تعاسة
وشكاية وضراعة وتألم
“ أبناء أكواخ التشرد والأسى
أنا منهم والشعب شعبي منهم
“ لا، لا تغرنك القصور شوامخا
إسأل حجارتها يحدثك الدم
نحن الذين عيونهم وقلوبهم
تتهدم ليشاد قصر متخم..”
ولمزيد من التحديد الدقيق للهوية يهتف الشاعر وهو يرد على الصحافي العربي:
“ أنا فلاح من الشام له
إخوة في كل حقل من بلادي
“ أضلع النيل عليها من دمي
مُزن تسقي وتعطي كل واد
“ وعلى النهرين جرحي نخلة
في جذور الدهر جيش من عناد
“ أنا فلاح وقصري خيمة
مزقتها ريح مَن ولوا قيادي،
“ قل لمن ساسوا أموري كفنوا
روعة الشمس بأمواج الحداد،
“ لن يطول الليل إني لأرى
ألف فجر من جراح الشعب باد”.
في الإهداء كتب صابر فلحوط: ”إنها همسة مبحوحة تند عن الأمة المذبوحة من البطين إلى الأذين”…
.. وهي مبحوحة لأن ”أبا عمر” اضطر لأن يداري في التحليل ألا يحرج السياسة الرسمية، ووصل الى آخر مدى وهو يحاول التعبير عنها مفترضاً أن ”الآخرين” الذين سيقرأون سيحاسبون… والشاعر وحده خارج الحساب!
ميزة صابر فلحوط أنه لا يستطيع قبول القناع، ولذا حرص دائماً على الفصل بين الشاعر فيه، وهو الأصل، وبين ”المسؤول الاعلامي”، سواء في موقع التوجيه السياسي أو على رأس اتحاد الصحافيين،
ولسوف تطول رحلة صابر فلحوط بين المتنبي والجواهري، بين أيام الفتوح العربية الكبرى، وبين الثورات المعاصرة من سلطان الأطرش الى حزب البعث مروراً بجمال عبد الناصر والانتفاضات المتواصلة على أرض فلسطين… لكنه سيظل يغتنم كل فرصة لكي يقول في أذنك ما لا يقال علناً، ولكي يتفجر شعراً حين تضيق به قيود النثر الرسمي المحاصر بالقرارات الدولية التي لا ترجع أرضاً ولا تحفظ كرامة… هذا إذا نفذت، فكيف وهي لا تنفذ؟
لذا فليس خاطئاً ذلك التقديم لصابر فلحوط الذي حمله ظهر كتابه الجديد والذي بلغ ذروة اكتماله بالفقرة الأخيرة فيه: ”يؤمن أن الوحدة العربية قدر أجيالها… ولينتحر الذين يحاولون إطفاء شمسها بفحيحهم”!
بقي أن تعرف أن الدار التي أصدرت الكتاب تحمل اسم ”دار الاعتدال”!
وصابر هو المعتدل أما أبو عمر فيستمر يبحث عن ثورات جدته ليكون حاديها!