طلال سلمان

أبهى من دبك.. ابو يحيى.. وسائر آل صُلح!

ولدت في بيئة بعلبكية، ولكنني نشأت متجولاً مع والدي الدركي ثم العريف فالرقيب فالرقيب الأول في “الدرك”.. وكانت معظم سنوات خدمته في انحاء جبل لبنان (رشميا، ثم بعقلين، فدير القمر ثم المختارة، وبعدها المتين.. قبل أن ينتقل ـ والعائلة معه ـ إلى الشمال: طرابلس، ثم الدعتور حيث كانت خزانات ومرفأ تصدير شركة نفط العراق (قبل أن تهمل)..

تركت البيت العائلي قبل أن ابلغ العشرين، وحاولت ان أنتمي إلى المهنة التي اعشق، الصحافة، والتي كان قد تنبأ لي أحد اساتذتي في تكميلية المختارة الرسمية المرحوم فوزي عابد، بأنني سأكون “محاميا قديراً أو صحافياً كبيراً”.

ستمضي الايام بي بعيداً عن بعلبك ولهجتها ونمط غنائها، العتابا والميجانا والقصيد و”الشروقي” و”اللا الطيرانية”، وكذلك الدبكة البعلبكية التي تتميز بانها “دبكة الكتف” لا الاقدام المدوية.. والفارق هائل بين اللباس العربي (أي الشروال والصاية التي تغلف الجسد كله وتعطي الحركة معناها)، مع ايقاع بسيط قوامه (الناي) او “المنجيرة” والطبلة او الطبل، وبين اللباس الافرنجي أي البدلة بالسترة والبنطلون ومعهما ربطة العنق..

في ربيع العام 1984 سيأخذنا ملك الدبكة الخيامية الدكتور كامل مهنا إلى بعلبك لنتعرف إلى الدبكة البعلبكية الاصيلة، و”فرقة الختيارية” بقيادة “ابو يحي” ملك ملوك الدبكة، بكتفيه العريضين وشاربيه الكثين وخطواته الرشيقة وعيني الصقر في وجهه، ولذلك فهو يسحب النساء اليه بسحره فيحطن به ويحاولن متابعة حراته و”التبرك” بطلعته وتقليد خطواته بينما ابتسامته تتسع لملامح رجولته واعتزازه ببعلبكيته..

وكثيراً ما انصرف ابو يحيى عن الفرقة ليبدع فتستقر صورته في عيون الوالهات ويجرين خلفه وقد نسين ازواجهن وانصرفن اليه وهن يتمايلن نشوة قد تأخذ إلى البكاء.

ولسوف تنشأ صداقة حميمة بيننا وبين “ابو يحيى” و”ابو مصطفى” و”ابو ماجد” وسائر اعضاء الفرقة التي كان يرعاها نضال صلح وآخرون من محبي الفني الاصيل والفولكلور المؤكد للهوية وليس ذاك الهجين الذي يأخذ إلى الغربة.

ومن البديهي، بعدها، أن اتباهى على زملائي ببعلبكيتي، لا سيما بعدما تعرفنا إلى المطرب الممتاز علي حليحل الذي كان يغني بصحبة الربابة الحانا بعلبكية وبدوية جميلة جداً، تُطرب حد البكاء.. اما دبكته فكانت من أجمل ما رأيت خصوصا وأنها عابقة بمناخ الرجولة وزخمها، إلى حد أن فهد العبدالله كان يترك له الحلبة، حتى اذا جاء “الختيارية”، أي ابو يحيى وصحبه ومعهم ملك “المنجيرة” انصرف علي إلى الغناء لكي نبلغ ـ نحن الجمهور ـ ذروة الطرب…

ولقد رحل ذلك الجيل من معيدي احياء فن الدبكة، واجبر علي حليحل نفسه على الاعتكاف، وهو المطرب البعلبكي ـ المتميز، فلا يظهر الا في مناسبات معينة، وقد انصرف ـ وهو الخيّال ـ إلى تربية الاصيل من الخيول، بالقرب من منزله في بعلبك، وقد هجر الربابة، و”سرق” المطربون المستجدون تراثه الغني..

وها هو عمر حماده الذي نشأ في رعاية الكبار، ابو يحيى وابو مصطفى وابو ماجد، يجتهد لإبقاء فن الدبكة حاضراً، ويحوز الاعجاب حيثما حل، حتى انه في بعض ليالي نهاية الأسبوع يكون لديه مع فرقة “هياكل بعلبك” أكثر من عشر إلى خمس عشرة حفلة في ليلة واحدة… ويفترض عمر أن ابسط واجباته أن يستحضر “ابو يحيى” في كل حفلاته، برغم الفارق في الحجم لا سيما كثافة الحاجبين، ونظرات الاغواء وفتنة الحركة وزخم الرجولة بين “الفارسين” المبدعين!

 

 

 

 

Exit mobile version