لا يمكن الحكم على تصريحات ترامب الأخيرة عن إيجاد مكان “أفضل وجميل” لفلسطنيي غزة دون العودة قليلاً إلى الوراء واستذكار تاريخ الرئيس الأمريكي مع اسرائيل. فهو من نقل سفارة بلاده إلى القدس، وهو من اعترف بالجولان كأرضٍ اسرائيلية (يتناسى الكثير من السوريين/ الأمريكيين هذا التفصيل وهم يهنئونه بحرارة) وهو الذي كان وراء “سلام أبراهام” بين دول خليجية وإسرائيل والذي كان من المفترض تتويجه سعودياً لولا السابع من أكتوبر وما لحقه من دمار في غزة.
عملية تفريغ فلسطين مستمرة، والحلقة القادمة تُحضَّر الآن في جنين والضفة الغربية، وهو مشروع لن يتوقف لا أمريكياً ولا اسرائيلياً. الرادع الحقيقي الوحيد أمامه هو دور عربي غير موجود ولا يبدو أن هناك ثمة إرادة لإيجاده. حتى الرفض المصري والأردني (حتى الآن) لمشروع ترامب أسبابه داخلية لكلا البلدين ولا تدخل فيه فلسطين كقضية عربية جامعة أو كقضية إنسانية محقة.
وحدهم الفلسطينيون يرسمون مشهداً مغايراً، هم العائدون إلى “لا أشيائهم” وإلى “لا أمكانهم”، العائدون إلى الدمار والخراب، ينصبون خيامهم فوق الأحجار ويبقون مع هذا التراب.
لماذا؟ ولأجل ماذا؟ وهل الوطن هذا؟
ليس صحيحاً أن ترامب لا يعرف كل ذلك، على العكس، يعرفه جيداً، ويعرف أن اللحم الفلسطيني هو ما يجعل مشروعه صعباً.
أثناء مؤتمره الصحفي الأمس قال ترامب أن هناك حضارات كثيرة زالت ودُفنت تحت الأرض… كان يقارن الفلسطينيين، بمكرٍ متأصل، مع كل ما سبق من تاريخنا الطويل.. أشوريون، حثييون، فينيقيون… كلها حضارات اختفت؟ ممكن.. لكنها على الأغلب استمرت بنا، نحن أبناء الأرض وترابها.
تتغير جلودنا… نبقى
تتغير عروش من يحكمنا… نبقى
تتغير أسماؤنا… نبقى
نغادر إلى المنافي… نبقى
ثم نموت وندخل التراب ونصير منه…
ترامب يعرف كل ذلك لكنه لا يفهمه، وليس بمقدوره فهمه. هو ينظر بعين التاجر يحسب الأرباح والأسهم ويلعب على أوتار الشعوبية المتأججة بين أتباعه. لكنه لا يفهم معنى أن تكون فلسطينياً.
نحن أيضاً لانفهم؟ ما سرُّ تعلقنا بهذه الأرض؟ ما سرُّ فلسطين؟ وما الذي يدفع ابن هذه الأرض المترامية إلى هذا الحد من العناد والتشبث؟ لا جواب نهائي ولا محدد. الأكيد أن كل فلسطيني يرسم إجاباته دون مراوغة ودون فلسفة ودون أوهام.
ما الذي يبقى بعد كل هذا الخراب؟ لا أحد يعرف. بعض السوريين بات يملك اليوم طرف جواب، بعض اللبنانيين يملك طرفاً آخر، وفلسطين تلملم الأطراف والحروف والكلمات إذ من المحتمل أن تصنع منها معنىً جديدا يرفع من مستويات انسانيتنا المهدورة. وكما كل مرة سنترك للأيام الحلول التي لا نملكها وسنلتفت إلى الدمار، نرمم بعضه، ونشدّ أوتار خيمة جديدة علَّ ترامب يزول، وعلَّ نتنياهو يزول وكلاهما همٌ ثقيل مجرم ومجنون.